عُرف عن معالي د. عبدالعزيز الخويطر -رحمه الله- أمانته ونزاهته وحرصه على المال العام. وكان ذلك أحد الأسباب لتكليفه بالعمل كوزير للمالية بالإضافة لعمله كوزير للمعارف أثناء فترات الإجازات السنوية وغياب وزير المالية لمهات رسمية خارج المملكة. ويروي د. غازي القصيبي -رحمه الله- في كتابه الشهير (حياة في الإدارة) أن د. الخويطر بالإضافة لعمله كوزير للمعارف تم تكليفه بوزارة المالية بشكل مؤقت. وكان د. الخويطر يحرص على الموازنة وعدم تعطيل العمل بين الوزارتين مما جعله يداوم صباحاً كوزير للمعارف وبعد الظهر كوزير للمالية. وحصل أن وقع د. الخويطر في الفترة الصباحية بصفته وزيراً للمعارف خطاباً رسمياً موجهاً إلى وزارة المالية لطلب موافقات واعتمادات مالية لمشاريع مرتبطة بمؤسسات التعليم. ولما جلس على كرسي وزارة المالية ليقوم بالأعمال المطلوبة منه كوزير مكلف تم عرض ذلك الخطاب عليه والمتضمن طلبات وزارة المعارف بتوقيعه هو نفسه. وجاء الرد من وزارة المالية موجهاً إلى وزارة المعارف بخطاب توقيعه هو نفسه يتضمن رفض الاعتمادات المطلوبة. وعند سؤاله عن سبب الرفض، أجاب بأنه بعث الخطاب بطلب الاعتمادات بناء على المعطيات التي تبينت له في وزارة المعارف، ولكنه رفض الطلبات بعدما توضحت له حقائق وبنظرة مختلفة بناء على نظرته لها كوزير للمالية..
في الواقع أن القادة والمسؤولين الذين لا يجاملون أنفسهم ثقافة موجودة في ثقافات العالم المختلفة. ومن ذلك القصة التي أوردها د. جاسر الحربش نقلاً عن صحيفة دير شبيغل حول مدينة ألمانية صغيرة بعدد سكان صغير لا يتجاوز العشرة آلاف نسمة. لسنوات طويلة واجهت تلك المدينة مشكلات كبرى بسبب يرقات لحشرات صغيرة تضع بيضها على الأشجار وتسبب لسكان المدينة حكاكاً وانتفاخات نتيجة شعيرات زغبية صغيرة تنتشر من هذه اليرقات وتطير في الجو مع الرياح لتنغرس في جلود السكان. ومن المضاعفات الخطيرة أعراض تتسبب بفقدان الوعي وصعوبات التنفس.
امتدت هذه المشكلة على مدى سنوات ولم يتمكن أي من عمداء المدينة من حل مشكلة اليرقات بشكل جذري. كانت كل الحلول مؤقتة وتتركز على رش المياه الحارة والباردة وتكنيس الأشجار بالمكانس الكهربائية ولكن دون تأثير حقيقي على الأرض. وجاء الدور على عمدة المدينة الجديد السيد رودجر كلوث والذي رفع لمجلس المدينة للسماح له برش المبيدات على الأشجار ولكن مجلس المدينة رفض السماح له ووجه باستخدام كل الوسائل المتاحة له حسب الأنظمة. وفي يوم من الأيام تعرضت طفلة صغيرة تدعى باولين لكمية كبيرة من شعيرات اليرقات مما تسبب لها بحالة اختناق وإغماء مما استدعى تنويمها في العناية المركزة لعدة أيام. وحصلت حالات مشابهة بدرجات خطورة أقل لأطفال آخرين..
وهنا رأى العمدة السيد رودجر أن السيل قد بلغ الزبى وأصبح الوضع لا يستحمل أمام عدم التعامل الجدي من مجلس المدينة مع هذا الوضع الخطير. هنا قرر العمدة أن يكتب شكوى رسمية ضد نفسه بسبب عجزه عن حل هذه المشكلة وأنه يطالب بمحاكمة عاجلة وعادلة ضد هذا الإهمال في حل مشكلة اليرقات والتي كادت أن تكلف الطفلة باولين حياتها. وتم تسليم الشكوى لمركز الشرطة ورفعها إلى القضاء ليبدأ التحقيق في القضية. هذا الخبر أصبح محط اهتمام وسائل الإعلام من محطات ومجلات وجرائد ومؤثري مواقع التواصل في ألمانيا حول هذه القضية ومشكلة اليرقات.
هذا الوضع أحرج مجلس المدينة الذي قرر أخيراً أن يتحرك ويشكل مجموعة عمل من العلماء والخبراء في مجال الحشرات والنباتات والسموم والبيئة والذين درسوا اليرقات والأشجار وتمكنوا من تطوير حل عملي يقضي على الحشرات دون إلحاق ضرر بالأشجار وتم حل المشكلة بشكل جذري.. وسألت وسائل الإعلام العمدة لماذا رفع الشكوى ضد نفسه؟ فأجاب بأنه استنفد جميع الحلول التي بين يديه ولم يتبقَ أمامه لحماية أرواح سكان المدينة إلا الحل الأخير باستخدام وسائل الإعلام للضغط على مجلس المدينة والذي استجاب للضغوط واضطر للتحرك فعلا.
وختاما، عندما لا يجامل القائد نفسه، وعندما يكون أول من يحاسب نفسه، فهو يخلق ثقافة مبنية على الشفافية والثقة ويقدم نموذج القيادة بالقدوة العملية والتي ستشجع الفريق أن يعملوا على نفس النهج فيما بينهم ومع الآخرين..
http://www.alriyadh.com/1986660]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]