نحن في زمن على المحك، لا يحتمل تشتيتاً، ولا يحتمل تجاربَ، ولا يحتمل تجاذباً.. في زمن يسعى فيه العالم إلى أن يعيد تشكيله في شكل تكتلات عالمية جديدة، ونحن ننظر تحت أقدامنا فقط لا غير..
إننا في ظل هذه الأزمة العالمية وموقع الوطن العربي منها، والأعناق كلها مشرئبة لكل ما هو جديد في سعي لاهث للحاق بركب التطور العالمي الحديث، نحتاج إلى قوة كبيرة في اتخاذ القرار.
فاتخاذ القرار عملية مستفيضة العناء، نظرا لاتساع صفحة الاختيارات، ومن اللافت للنظر في يومنا هذا هو ذلك التقلب الفكري بين الوعي الممكن والوعي المتاح والوعي العام!
مشكلات وقضايا فكرية وفلسفية واجتماعية وإعلامية بين الواقع والمستحدث مما يشكل عقبة كبيرة في سبيل اتخاذ القرار وتوحيد وجهة المواجهة، في هذه في ظل الهجمة الشرسة على وطننا الغالي وعلى مقدراته مما يتوجب علينا إعمال التفكير المنهجي وغير السماعي والنقلي وما هو سائد.
هناك قصة طريفة تقول: "بعد رحلة شاقّة لحمار؛ وهو يتضور جوعا، ويكاد ينفق عطشا، يضعه صاحبه وسطًا بين مِعلَف مملوء حبًّا، وسطل مملوء ماء. وينصب الحمار أذنيه، ويتساءل أيبادر بالأكل؛ ثم يثنّي بالشرب أم يبادر بالشرب؛ ثم يثني بالأكل. أي أكل فشرب أو شرب فأكل، ويحار الحمار، وهو يرجح ويزن وجهات النظر، ويتأمل هذا وذاك، ليحسن صنيعه وتقديره، ويدير رأسه يمنة ويسرة؛ وقد ضاق به الأمر من وقفته بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، فلو كان أقرب إلى السطل.. لربّما هرع إلى الماء.. ولو كان أقرب إلى المعلَف لربما هرع إلى الحَبّ.. والوقت يجري، والقرار متأرجح، ولا يدري أيرتضي الماء أولا، والعلف ثانيا أم العلف أولا، والماء ثانيا. يرفع رأسه، ويحرك أذنيه بين فينة وأخرى؛ وعيناه إلى سطل الماء حينا، فمعلف الحب حينا؛ فالمعلَف.. فالسطل.. ينهق ضعيفًا وكأنه يشهق.. وهو ينفق الآن جوعا وعطشا.. ولا هو يبت في الأمر ولا هو يقر بقراره.. وتخور قواه، وتتراخى قوائمه.. وتزيغ عيناه.. ويتهاوى ليموت جوعا.. أو ربما عطشا.. أو جوعا وعطشا في آن واحد".
لم تكن هذه الحكاية قصة من صنع الخيال، أو من أساطير الفيلسوف اليوناني أيسوب، أو من حكايات كليلة ودمنة، بل كانت تجربة علمية أجراها فيسلوف فرنسي وهو جون بروديان (1298 - 1366)، وهو الذي أعاد اكتشاف نظرية الاندفاع، في نظريته لكي يناقش قوة الاختيار واتخاذ القرار، وسميت هذه التجربة باسمه وصار لحمار بورديان لوحات فنية في أغلب متاحف العالم.
لا نعرض هذه النظرية إلا لنتخذها مثالا على ما يحدث فيما يسود وطننا العربي من تشتت الآراء، ومن تزييف الوعي، ومن شوشرة على ما يحدث في كل المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية، ومن عدم الثقة في علمائنا ومفكرينا، بل يتم ضربهم ومحاولة إسقاط كارزماتهم، مما ضرب الوعي العام برمته عبر استقاء معلومات متضاربة ومتضادة تحمل في جوهرها توجها يحمل أفكار القائمين عليها، ليس لمصلحة الرأي العام بقدر ما هو الحفاظ أو قل استلاب العقول في بعض الأحيان، مما يشكل نوعا من الاستلاب أو التأرجح على عتبات المعرفة والوعى اللذين هما الكنز الأكبر لحياة الشعوب ودعامتها الأولى!
فالمعرفة هي ما يسعى إليها الإنسان منذ أن تلامس قدماه الأرض حتى يلامس لحده، وهو يبحث عن ماء يروي عطشه اللاهث، في كل ما يشكل لغزا محيرا، وتظل الإجابات مبهمة.
نحن في زمن على المحك، لا يحتمل تشتيتاً، ولا يحتمل تجاربَ، ولا يحتمل تجاذبا. في زمن يسعى فيه العالم إلى أن يعيد تشكيله في شكل تكتلات عالمية جديدة ونحن ننظر تحت أقدامنا فقط لا غير!
كيف تكون صياغة الرأي العام؟ وكيف يكون التدريب على اتخاذ القرار؟ وكيف يكون لدينا جيل قادر على ما يسمى بـ"مواصلة الاتجاه" دون تردد، ودون اتخاذ أنصاف الطرق التي تؤدي في النهاية إلى المفازة؟ وكيف نفكر فيما يصدره لنا هذا الإعلام الموجه والممنهج في بعض الأحيان وما أكثر قنواته وأوتار عازفيه؟
إنه بالتفكير المنهجي، الذي لا بد أن نقوم عليه بالتحليل والتفسير واتخاذ القرار بعلم ودراية وقوة قريحة ممنهجة، ودون الاستناد إلى الأقاويل المستقاة من الشارع والمقهى، ووسائل التواصل الاجتماعي؟ ولا شك في أن ثقافتنا نحن العرب هي ثقافة سمعية لأنها قامت على الثقافة القولية في بداية الأمر كما صُنفت.
ولعل التعليم هو إحدى ركائز هذا الوعي، وهو المسؤول الأول على طريقة التفكير المنهجي والقدرة على اتخاذ القرار، خاصة أن الثقافات العالمية أصبحت تنساب بين شراييننا، فلا بد من التفكير والتحليل الذي ندرب عليه أبناءنا منذ أول وهلة يدخلون فيها المدارس، وعلى الجانب الآخر يكون هناك نشاط لعلماء (الأنتلجسيا) الذين تواروا خلف الجُدر، ربما لعدم استدعائهم، أو لعدم تقديمهم حق قدرهم وإبراز دورهم على الساحات العلمية والثقافية، فاكتفوا بمدّرجات الجامعات وخلف أسوارها.
إننا على ثقة بعلمائنا وبمفكرينا إذا ما أبرزنا دورهم وتقدير مساعيهم وإعادتهم إلى المشهد الثقافي بكل مستوياته.




http://www.alriyadh.com/1992311]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]