تقوم اللغة -أي لغة- على الاستعمال والتداول, والممارسة, والتناول، ويتطلب هذا الأمر شيئاً من الصبر المعتمد على المحاكاة أولاً، ثم التعلم, والتدرج، ثم المهارة، فالإبداع، والتميز، وصولاً إلى ما يطلق عليه بعضهم (الطلاقة) التي هي درجة من المرونة العالية في استعمال اللغة، والتواصل بها؛ فالإنسان بطبعه كائن ناطق، أي يعيش على اللغة، ويحيا بها، ولا يمكن لشخص أن يظل منقطعاً عن التواصل اللغوي، حتى وإن كان أبكماً لا يتكلم, فهو يستطيع الحديث بالإشارات، والإيماءات، والحركات، وفي هذا دليل على أهمية كون اللغة عنصراً رئيساً في حياة الناس، يمارسون من خلالها حياتهم اليومية؛ لهذا كان الأمر مهماً في أن اللغة وسيلة تواصل، وتفاهم, وتبادل بين الأفراد، والناس, والمجتمعات، والدول، والمؤسسات؛ ومن هنا كان الاعتناء بها، والاهتمام بأنساقها، وأنظمتها، ضرورياً في جعلها أساساً تقوم عليه الحياة.
ونظراً إلى أهمية اللغة بوصفها وسيلة تواصل بين الناس، فإن المتعاملين بها ليسوا سواء, فمنهم المبتدئ، ومنهم المتعلم، ومنهم العارف، ومنهم الحاذق، ومنهم المتألق، ومنهم البصير بمسالكها ودروبها، وبعيداً عن طريقة الأداء، أو مهارة التوصيل، فإن الإشكال يكمن في أمرين هما: اللغة ذاتها، ومتلقيها، فأما اللغة نفسها فهي مجموعة القواعد التي تجعل من اللغة لغة صحيحة، وهذا الأمر يتطلب مرسلاً عارفاً بأيسر المعلوم؛ لكي يكون قادراً على إيصال اللغة للطرف الآخر، وأما المتلقي فمن خلاله تتشكّل شخصيات عديدة لاستقبال اللغة، كما هو الحال لدى المرسل؛ إذ قد يكون المتلقي متقبّلاً للغة، أو رافضاً لها، كما قد يكون سعيداً مسروراً, أو متبرماً ساخطاً, وربما كان عاذراً ملتمساً, أو متندّراً متنمّراً, وفي كل حال من هذه الأحوال تتأثر اللغة صعوداً وهبوطاً, وتألقاً, وتدنّياً.
إن تلقي اللغة من المرسل – أيا كان ذلك المرسل – أمر ينبغي النظر إليه بعين الاهتمام والاحترام, وأظن أننا بحاجة إلى مراعاة هذا المبدأ من ناحية عاطفية نفسية؛ ذلك أن المتحدثين باللغة ليسوا على قدر واحد من مستويات التخاطب, وحينئذ لا بد من تقدير تلك الفروق, فالذي يحسن التعامل باللغة يمكن أن نفيد منه, ونتأثر به, ونتفاعل معه, أما الذي لا يستطيع التعامل باللغة, وتكون شاقة عليه وصعبة, فهذا علينا أن نأخذ بيده بطريقة حسنة, تعلّمه, ولا تنفره, وللأسف أقول هذا, بعد أن رأيت بعيني, وسمعت بأذني من يتندّرون بالمخطئ لغوياً, ويتصيّدون هفوات المسيء أسلوبياً, وليس هذا من شأن العقلاء, والمتعلمين, وأظن لو سَلِم المخطئون لغوياً ممن يتنمرون عليهم, أو يتندرون بهم, وعولجت أخطاؤهم بطريقة سليمة؛ لخرج لنا عدداً كثيراً من الذين يحبون لغتهم, ويفاخرون بانتمائهم إليها.
إن هذا التندّر والتنمر في استقبال اللغة لا نراه خاصًا باللغة الأم, بل إنه يمتد - للأسف - في استقبال اللغات الأخرى, أي حين يتعلم الإنسان لغة أخرى, ويبدأ تدريجياً في تعلمها, فيواجَه ويجابَه بأشكال مختلفة من التندر والتنمر, تجعله حائراً بين أمرين: إما أن يتحطّم وينهار, فلا يستطيع إكمال طموحه في اكتساب لغة جديدة, وإما أن يصبر ويتحمّل, ويقاوم, ولا يكترث؛ لكي يستطيع أن يحقق هدفه, وهو ما يثبت أن استقبال اللغة ليس أمراً هيناً, بل هو موضوع دقيق, وعميق, ويتطلب كثيراً من الصبر, والهدوء, والتحمل, وعدم السقوط, أو اليأس.




http://www.alriyadh.com/1993547]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]