مراعاة عموم المصالح من أسس بناء الدول وقيام الحضارات؛ فإن الناس إذا اجتمعوا نشأت لهم مصالح ضرورية يشتركون جميعاً في مسيس الحاجة إليها، وتتكاثر بكثرتهم، وكثير من تلك المصالح يتقرر لغرض تنظيم مُعايشتهم وتقنين شؤونهم..
المصلحة بمعناها الأعم عبارة عن جلب منفعةٍ أو دفع مضرة، وفِكرةُ تعاطي جلبِ المنافع والسعيِ في دفع المضارِّ مركوزة في فِطَرِ الناس وغيرهم من المخلوقات الحيةِ، حتى إن أصغرها حجماً ليتعاطى من ذلك ما يحار فيه العقل من بدائعِ أساليبِ الكسب والاحترازِ عن المكاره وتوقِّي المخاطر، وقد مرت حياة الناس في الأرض على منعطفاتٍ كثيرة وتطورات كبيرة، تتخلَّلها التراجعات والنكسات أحيانا، ومرجع ذلك إلى بذل المنجزين منهم الجهودَ في اكتشاف وسائل الحفاظ على المصالح أو تكميلها، واجتناب المضارِّ أو تقليلها، وقد جاء الشرع الحنيف ليضبط المصلحة، فجعلها كما يقرره الأصوليون عبارةً عن المحافظة على مقصود الشرعِ المتمثل في أن يحفظ على الناس دينَهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، وبهذا وَضَعَ المصلحةَ في دائرتها الواسعة التي لا توجد - ولن توجد - منفعة في الحال والمآل إلا وتندرج فيها، ولا توجد مفسدة - ولن توجد - إلا وتتكفل بدرئها، وضمن هذه الدائرة تفاصيل كثيرة وترجيحات دقيقة، ومن معايير الترجيح عموم المصلحة وخصوصها، فإذا تعارضت المصلحة العامة مع الخاصة قدمت العامة، ولي مع تقديم المصلحة العامة على الخاصة وقفات:
الأولى: عموم المصالح ينشأ عن تعلقها بالمقاصد العليا المشتركَة، فتكتسب بذلك أهمية تتقدم به على المصلحة الخاصة، وليس في هذا خرقاً لقاعدة تقديم الخاص على العام المعمول بها في النصوص الشرعية وفي الأولوية بالحقوق المادية والمعنوية؛ وذلك لأن عموم المصلحة يجعل حصولها مطلباً ضرورياً لكل فرد من أفراد المجتمع، فتصير في حق كل واحد بمثابة ما لا مندوحة له فيه، فقد اجتمع فيها عموم في الأفراد وخصوصية في الاعتبار، قال العز بن عبدالسلام: "لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة"، وإذا كانت كذلك فلا ينبغي تحايل الناس لعرقلتها، ومحاولتهم التأثير السلبي عليها مراعاةً للخاصة، ولا استثقال تطبيقها مهما كلفت من ثمن، فليس سديداً صنعُ من يتهاون بالمصالح العامة لحساب الخاصة، فيركب كل صعب وذلول لتحصيل مصالحه الخاصة، ويترك المرجوح منها ليتحقق له الراجح، ويرتاحُ لمن علم منه أنه يقوم له على مصلحته الخاصة، ويخصه بالحفاوة والمحبة، فإذا عرضت عليه المصلحة العامة اكفهرَّ وجهه، ولم يكن مستعدّاً ليتحمل في سبيل تحقيقها أدنى عناء، أو يوازن بينها وبين أخف مصالحه الخاصة، وإذا قيِّض له ولسائر المجتمع من يسهر على المصالح العامة لم يستشعر أنه كفاهم مؤونةً عظيمة، ولم يشكره على مجهوداته، ولا يفعل هذا النكرانَ إلا محدود التفكير مغبون في نعمة العقل.
الثانية: مراعاة عموم المصالح من أسس بناء الدول وقيام الحضارات؛ فإن الناس إذا اجتمعوا نشأت لهم مصالح ضرورية يشتركون جميعاً في مسيس الحاجة إليها، وتتكاثر بكثرتهم، وكثير من تلك المصالح يتقرر لغرض تنظيم مُعايشتهم وتقنين شؤونهم بما يضمن عدمَ تخَطّي بعضهم مساحة حقوقه للتأثير في حقوق غيره، ولو بقوا أشتاتاً يعيش كل أهل منزل حيث توفر له أدنى متطلبات الحياة لم يحتاجوا إلى كثيرٍ من هذا؛ ولهذا تتوسع دائرة المصالح العامة في قُطرٍ معين كلما تقدم أهله في الحضارة، وتنكمش بانكماش حضارتهم، ويحدث للخلف منهم من الأنظمة والأعراف ما لم تقم لسلفهم به حاجة، وفي المجمل لا يقوى مجتمع ولا تنهض دولة إلا بإعلاء شأن المصالح العليا والمحافظة عليها، واستلام زمام قيادتها من طرفٍ ذي كفاءة يُدافع عن تلك المصالح، ولا يحيط الوهن بفئةٍ من الناس إلا بسبب إهدارهم مصالحهم العامة وزهدهم فيها.
الثالثة: من أوجه كون المصلحة العامة أهم من الخاصة أن الخاصة متروكة في الغالب لصاحبها يرى فيها ما يعتقد أنه يحققها ما لم يَعُقْه عن النظر فيها عارض من عوارض الأهلية، فيجعل له من ينوب عنه فيها، أو لم تتعارض مع مصلحةٍ خاصةٍ لغيره فيكون النظر في ذلك لذي سلطةٍ يحكم بينهما، أما العامة فلأهميتها جُعلت مَحْمِيَّةً لا ينظر فيها إلا فئة معينة من الناس لهم ميزاتهم المعرفية والاجتماعية، ونتيجة نظرهم فيها سارية على الجميع، وليس لعامة الناس مباشرة شيء منها إلا بإذن من صاحب السلطة فيها، ولأجل ذلك لم يجز لإنسانٍ معيٍن أن ينفذ حقه الخاص الواضح المعالم في قضية اقتضت المصلحة العامة أن وصول الحق فيها إلى صاحبه من اختصاص صاحب الولاية العامة، ولو استبدَّ صاحب الحق بتنفيذ حقه فيها لكان مفتاتاً مستحقاً لأن يُعاقب على افتياته، فإذا كان صاحب الحق الخاص مكفوفَ اليد عن تناوله ما لم يؤذن له فيه مما يتعلق بالمصلحة العامة، فمن التجاوز الفادح أن يفتات آحاد الناس في القضايا العامة بأي شكلٍ من أشكال الافتيات القولي والفعلي.
http://www.alriyadh.com/1995558]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]