ثمة سمة غريبة تميز مجتمعاتنا الحديثة، ووجه الغرابة يكمن في أنها تخالف المنطق أو على الأقل ما يبدو منطقياً؛ إذ لم يمر على البشرية منذ بدئها مثل هذا الترف وسهولة الحياة والرخاء الذي نعيشه؛ على الأقل في المجتمعات التي تغلب فيها الطبقة المتوسطة على باقي الطبقات الاجتماعية.
منطقياً من المفترض أن تكون هذه الحياة الناعمة من أسباب العيش الرغيد والسعادة، لكن للأسف ما يحدث هو العكس، لذلك أصبح الرخاء وسهولة الحياة تتلازم طردياً مع المعاناة النفسية، إذ تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أن معدلات الاكتئاب ارتفعت بنسبة 18 % خلال الفترة ما بين عامي 2005 و2015.
الوفرة والرخاء وتخمة الخيارات المتاحة لا تؤدي بالضرورة إلى السعادة، بل ربما تكون من أسباب الحصر النفسي والضيق والحزن، هناك ما يشبه المعادلة التي يحتاجها البشر لتحقيق التوازن النفسي؛ فيها خليط من البساطة والخيارات المحدودة مع تحقق المتطلبات الأساسية للعيش، ولذلك تقترب المجتمعات البسيطة من هذه المعادلة ويتمتع أفرادها بقدر ملاحظ من السعادة، ولولا افتقارهم لبعض أساسيات الحياة لكانت مجتمعات مثالية للمعيشة الإنسانية؛ على الأقل في نموذجها الأقل تعاسة، إذ تكمن عناصر قوتهم النفسية في نشاطاتهم الجماعية ومحدودية خياراتهم الترفيهية، ولذلك تكون درجة استمتاعهم بها أكبر وتقديرهم لها أعلى في حال توفرها.
ربما هناك مثال بسيط يشرح الفرق بين متعة محدودية الخيارات وبين وفرتها إلى حد التخمة، هل تذكر قبل ثورة البث المباشر تلك المتعة التي تشعر بها وأنت تنتظر حلقة من مسلسلك المفضل الذي يعرض في المساء، والفرق بينها وبين أن تشاهد حلقات متتابعة من مسلسل يعرض حسب طلبك ولا يقطع متابعتك لأحداثه له إلا الملل أو التخمة البصرية من كثرة المشاهدة. هذا بالضبط الفرق بين محدودية الخيارات وبين توفرها إلى حد الإغراق والسأم، مما يؤدي إلى الشعور بمتلازمة عدم الرضا الدائم.
هذه المتلازمة هي اضطراب نفسي مصنف وله أعراضه وأسبابه لكن ارتفاع نسب الإصابة به وبمستويات مختلفة في المجتمعات المترفة أمر متوقع في ظل الاضطراب الاجتماعي الكبير الذي نعيشه نتيجة لمنصات التواصل الجديدة، بكل الاستعراض المادي الذي تحفل به والذي يحرض على المقارنة والتعاسة لعدم تمكننا من الحصول على ما يعرضه لنا أقراننا في العالم الافتراضي، ورغبتنا في المزيد والمزيد، دون أن نعرف أن هذه الكثرة والوفرة قد تؤدي إلى تعاستنا وبؤسنا.
http://www.alriyadh.com/2009208]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]