إن صِناعة الأزمات في المُجتمعات والدول الغنية بمواردها وثرواتها الطبيعية، والفقيرة بتنميتها وبنيتها التحتية، سياسة استعمارية جديدة تُخطط لها القوى الدولية الكُبرى، وينفذها عملاؤها ومرتزقتها من خونة الأوطان في تلك المجتمعات، لتتمكن عن طريقهم من مواصلة نهب وسرقة موارد وثروات تلك الدول الفقيرة..
المَصالح هي المُحرك الرئيس للدول في علاقاتها الخارجية، وهذه المصالح تتنوع مجالاتها بين السياسية والاقتصادية والمادية والاجتماعية والتعليمية والصحية والتقنية والأمنية والعسكرية، لتتعدى ذلك كله لتعم مجالات أخرى أكثر دقة وعمقاً ومنفعة، ولتشمل مستويات متعددة تتطلع لها الدول من علاقاتها الخارجية. ولتتحقق هذه المصالح بمختلف مجالاتها ومستوياتها، تتبنى الدول سياسات، وترسم استراتيجيات، تمكنها من الوصول لأهدافها المرسومة وخططها الموضوعة، وتضمن لها تحقيق غاياتها النهائية المُتمثلة بخدمة المصالح العليا للدولة. نعم، هذه هي المنطلقات العامة التي تنطلق منها الدول في سياساتها الخارجية تجاه المجتمع الدولي بحيث المصلحة تقود السياسات، وتتعزز بها العلاقات، وتتنافس عليها المجتمعات، وتتصارع بسببها الدول. وإذا كانت المصالح هي المحرك الرئيس للسياسات الخارجية للدول، فإنه يجب أن نؤمن يقيناً بأن هذه المصالح تختلف من دولة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر. نعم، فقد تكون المصالح السياسية هي المحرك الرئيس للسياسات الخارجية لبعض الدول، بينما تكون المصالح الدبلوماسية، أو الاقتصادية، أو الصناعية، أو التقنية، أو الأمنية، أو العسكرية، أو الثقافية، أو التعليمية، أو الصحية، أو الزراعية، أو السياحية، أو الرياضية، أو غيرها من المجالات محركاً رئيساً للسياسات الخارجية لدول أخرى. وهذا الاختلاف الجُزئي أو الكُلي أو الجذري في المصالح بين الدول مسألة طبيعية في السياسات الخارجية للدول، وفي مجال العلاقات الدولية القائمة في المجتمع الدولي، لأن كل دولة تسعى لخدمة مصالحها وفقاً لمتطلباتها وحاجاتها، ولأن كل مجتمع يعمل لبناء وتنمية وتطوير قدراته وإمكاناته، ولأن كل دولة تهدف لاستثمار مواردها البشرية والمادية المتاحة وطاقاتها الكامنة بما يحقق لمجتمعها التطور، ولشعبها الرفاه والرخاء، ولأن غاية كل مجتمع ودولة المُنافسة على المراتب الدولية المتقدمة بما يضمن لها البقاء قوية وآمنة في المجتمع الدولي. ومع إيماننا بوجود ذلك الاختلاف متعدد المستويات بين الدول والمجتمعات من حيث المصالح، فإنه يجب أن نشير، أيضاً، إلى أن هذا الاختلاف في المصالح يتأثر بشكل رئيس بمكانة ومستوى الدولة في هرمية المجتمع الدولي بحيث تختلف بين دول المستوى الأول المتقدم اقتصادياً وصناعياً وتقنياً وعسكرياً، عن دول المستوى الثاني الأقل في مستوى التطور الاقتصادي والصناعي والتقني والعسكري، وبالتأكيد سوف تختلف هذه المصالح عن دول المستوى الثالث الأقل تنمية وتطور وحداثة، والأكثر فقراً وحاجة وعوزاً. فإذا كانت هذه هي الحقيقة التي يقوم عليها المجتمع الدولي والمتمثلة في أن المصالح هي المحرك الرئيس للسياسات الخارجية للدول، وأن هذه المصالح تختلف من دولة إلى دولة وفقاً لمستوياتها التنموية والتطويرية، ووفقاً لحاجاتها ومتطلباتها الرئيسة، فهل يعني ذلك أن الدول سوف تعمل لخدمة مصالح بعضها بما يجعل جميعها في مرتبة متقدمة بحيث تنعم الشعوب جميعها بالرفاه والرَّخاء والازدهار والأمن والاستقرار؟ أم يعني ذلك أن كل دولة من الدول سوف تعمل لخدمة مصالحها فقط على حساب مصالح الدول الأخرى ما يخلق تنافساً صعباً بين الدول قد يؤدي بالنهاية لصدام وأزمات بينها؟
قد تكون هذه التساؤلات فيها نوع من التفاؤل تجاه المجتمع الدولي، أو فيها نوع من التشاؤم تجاه الدول وسياساتها الخارجية، إلا أن الإجابة عليها تتطلب منَّا فقط التفكر بتاريخ السياسة الدولية خلال القرون الأربعة الماضية، بالإضافة للنَّظر بواقع السياسة الدولية في وقتنا الراهن لنصل لإجابة دقيقة وقريبة لحقيقة وواقع السياسة الدولية وطبيعة العلاقات القائمة بين المجتمعات. نعم، قد يكون من الصعب استرجاع تاريخ أربعة قرون من تاريخ السياسة الدولية، إلا أنه من الممكن التعرف على ذلك من خلال الإشارة للممارسات السياسة بين المجتمعات خلال تلك القرون الأربعة (1600 – 2000م). نعم، إن الذي يمكن الإشارة إليه خلال تلك القرون المتتالية هو أن المجتمع الدولي تميز بميزتين رئيستين وهما: الميزة الأولى: أن المجتمع الدولي تشكل من مستويين رئيسين: المستوى الأولى تشكل من مجتمعات أو دول مُهيمنة ومتقدمة ومسيطرة وقوية وهي التي يُطلق عليها مصطلح القوى الاستعمارية، والمستوى الثاني تشكل من مجتمعات أو دول خاضعة ومُتخلفة وتابعة وضعيفة وهي التي يُطلق عليها مصطلح المُستعمرات. أما الميزة الثانية: أن المجتمع الدولي خلال تلك القرون تميز بحالة من الصِراع الشَّديد والمُستمر بين القوى الدولية الاستعمارية السَّاعية لتعزيز مكانتها العالمية على حساب منافسيها من القوى الاستعمارية الأخرى. فإذا نظرنا إلى هاتين الميزتين التي ميزت السياسة الدولية خلال القرون الأربعة الماضية فإننا نجد أنها نتاج مُباشر للمصالح، أو اختلاف المصالح، بين الدول. نعم، لقد قادت المصالح تلك الدول الأكثر تقدماً وتطوراً للذهاب قريباً أو بعيداً لاحتلال أراضي المجتمعات والدول الضعيفة من أجل الحصول على موارد بشرية أو طبيعية تساعدها في تنمية اقتصاداتها وصناعاتها واستثماراتها العالمية، وكذلك من أجل إيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها وصناعاتها تمكنها من الحصول على عوائد مالية كبيرة جداً. وهذه المصالح التي شجعت سياسة الاستعمار واحتلال أراضي الشعوب الضعيفة وسرقة خيراتها ومواردها الطبيعية، أدت في الوقت نفسه إلى صِدام مستمر بين الدول الاستعمارية على المناطق الأكثر احتواءً للموارد الطبيعية، والأكثر عوائد مادية وتجارية واستثمارية. نعم، هكذا كانت السياسة الدولية خلال القرون الأربعة الماضية حيث خدمة المصالح قادت بالضرورة إلى حالة متصلة من الاستعمار المُباشر، وكذلك حالة مستمرة من الصِراع والصدام والحروب داخل وبين المجتمعات والدول. فإذا كان ذلك هو الحال خلال القرون الماضية، فهل انتهى ذلك كله مع نهاية حقبة الاستعمار المُباشر، وتراجع حالة الصِراع والصِدام المُسلح بين الدول الاستعمارية؟
نعم، قد تكون حِقبة الاستعمار المُباشر للأراضي والشعوب انتهت بتراجع مكانة القوى الاستعمارية، وتحرر الشعوب المُستضعفة وحصولها على سيادتها، بالإضافة لتغير هرمية البنيان الدولي ليصبح أحادي القطبية الأميركية في 1991م، إلا أن ذلك لا يعني إطلاقاً تخلي القوى الدولية الرئيسة، الاستعمارية تاريخياً، عن خدمة مصالحها بأي شكل كان. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف إذاً تخدم هذه القوى الدولية مصالحها في وقتنا الراهن؟ نعم، لقد حصلت الشعوب على استقلالها، وتغيرت هرمية البنيان الدولي، إلا مستويات الدول في المجتمع الدولي لم تتغير حيث واصلت المجتمعات المتقدمة اقتصادياً وصناعياً وتقنياً وعسكرياً تقدمها وتطورها وهيمنتها على السياسة الدولية، وبقيت المجتمعات الأقل تنمية ضعيفة وفقيرة ومتخلفة وتعاني من الصِراعات الداخلية. نعم، لقد تغير شكل السياسة الدولية وطريقة عملها، ولكن لم تتغير طبيعة السياسة الدولية وأهدافها الاستراتيجية وغاياتها النهائية القائمة على خدمة المصالح العليا للدول بأي شكل وطريقة كانت. نعم، لقد غابت سياسة الاستعمار المُباشر للأراضي والمجتمعات والدول، وحلت محلها سياسة الاستعمار غير المُباشر بتجنيد وتمكين ودعم العُملاء، والمُرتزقة، وقادة المليشيات والجماعات والتنظيمات الخائنة، ليقوموا بخدمة مصالح القوى الدولية الكُبرى، الاستعمارية تاريخياً، بأي شكل وطريقة كانت حتى وإن زعزعت أمن وسلم واستقرار مجتمعاتها وتسببت بالحروب الأهلية.
وفي الختام من الأهمية القول إن صِناعة الأزمات في المُجتمعات والدول الغنية بمواردها وثرواتها الطبيعية، والفقيرة بتنميتها وبنيتها التحتية، سياسة استعمارية جديدة تُخطط لها القوى الدولية الكُبرى، وينفذها عملاؤها ومرتزقتها من خونة الأوطان في تلك المجتمعات، لتتمكن عن طريقهم من مواصلة نهب وسرقة موارد وثروات تلك الدول الفقيرة، ولتحافظ على استمرارية تفوقها وريادتها وهيمنتها العالمية في جميع المجالات وخاصة السياسية والاقتصادية والصناعية والتقنية والعسكرية. نعم، لقد قام خونة الأوطان والمجتمعات من قادة الحروب الأهلية، وزعماء المليشيات المُسلحة، ورؤساء الأحزاب الطائفية، ورموز التنظيمات المتطرفة، وزعماء الجماعات الإرهابية، بتقديم أعظم الخدمات، وبأرخص الأثمان، للدول الكُبرى في السياسة الدولية، القوى الاستعمارية تاريخياً، من خلال إضعاف وإنهاك الدولة المركزية، وزعزعة أمن وسلم واستقرار المجتمع، وتقسيم الشعوب لفئات وأحزاب ومذاهب وطوائف. نعم، إن خونة الأوطان ومثيري الفتن والصِراعات والنزاعات والفوضى داخل المجتمعات، هم الأدوات والوسائل الجديدة التي تعتمد عليها القوى الكُبرى لخدمة مصالحها وتحقيق أطماعها الاستعمارية.
http://www.alriyadh.com/2010343]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]