كنت طالباً في مرحلة الماجستير في اليابان، ونتيجة عدد من الظروف كنت أعمل وأدرس على حسابي الخاص. ومن المعتاد في الجامعات اليابانية أن يقوم الطلاب برحلة علمية سنوية في الريف أو بين الجبال لمدة يومين أو ثلاثة مع أستاذهم المشرف الذي يتتلمذون على يديه لمناقشات بحثية وتبادل الآراء العلمية، وصادف أن دخلت علي مهمة في مشروع مهم جداً في عملي لا أستطيع معها المشاركة في تلك الرحلة العلمية السنوية مع الجامعة، اضطررت إلى أن ألتقي أستاذي المشرف وأشرح له الظروف وأعتذر منه. فما كان منه إلا أن أومأ برأسه ثم نظر إلى قائلا: "حسناً، يمكنك أن تعتذر ولكن عليك أن تنتبه ولا تنغمس بشكل مبالغ فيه في عملك لدرجة لن تستطيع معها التخرج ولا إنهاء مشروعك البحثي للماجستير!"، كانت كلمات هادئة ولكن لن أنسى نظراته الصارمة والقاسية والتي كانت أشد من وقع السياط، حقيقة كانت تلك الكلمات والنظرات أشبه بالجرس المنبه الذي أيقظني من غفوتي وساعدني على أن أرتب أولوياتي، فرغم حرصي على النجاح المهني فقد كان إنهاء دراساتي العليا هو الهدف الاستراتيجي وقتها بالنسبة لي والعمل المهني هو الوسيلة لتمويل حياتي وتحقيق ذلك الهدف، وفعلاً تمكنت بفضل الله من التخرج دون تأخير وإكمال دراساتي في الدكتوراة بعدها.
ما دعاني لمشاركة هذه القصة هو التفكير بأهمية وجود الضغوط والتحديات في حياتنا، الكثيرون يفقدون الأمل أو ينهارون مع أول موقف صعب، وآخرون يعتبرون أي رفض أو نقد من مديريهم موقفاً عدائياً مما يدفعهم لشخصنة الأمور والدخول في متاهات وصراعات لا معنى لها، بينما لو تم تركيز تلك الجهود واستغلال الوقت في التفكير في تطوير العمل والبحث عن حلول لكانت النتائج والمخرجات أفضل بكثير.
في الواقع، يذكرني ذلك بما يفعله صيادو السمك في اليابان، حيث كانوا يواجهون مشكلة أن السمك الذي يصطادونه في البحر يفقد مذاقه المميز عند تبريده بعد اصطياده مما يؤثر على السعر، قرروا بعدها وضع السمك في أحواض كبيرة، ورغم ذلك لم يكن لحم السمك بالجودة نفسها لأنه كان يبقى ساكناً ولا يتحرك في أحواض السمك، وجاءت بعدها الفكرة العبقرية المتمثلة في وضع سمك قرش صغير في الحوض نفسه، كانت الأسماك تتحرك باستمرار لتهرب من سمكة القرش التي كانت تأكل بعض السمك، ولكن في نهاية الأمر كانت الأسماك تصل إلى السوق في الميناء طازجة وبمذاق مميز وجودة عالية وسعر مرتفع.
وطالما الحديث عن أسماك القرش، فكما أن جميع السمك سيموت ويتم التهامه لو أن الصيادين وضعوا سمكة قرش كبيرة في الحوض، فالضغوطات الزائدة وبيئات العمل السامة كفيلة بالقضاء على الإنجاز وقتل الإنتاجية وتشجيع الكفاءات على الرحيل والمغادرة.
وبالمقابل، فحوض سمك بلا أسماك قرش يعني سمكاً خاملاً لا يتحرك، وبيئة بلا ضغوط تعني تهاوناً وخمولاً وإنتاجية ضعيفة أو منعدمة.
وباختصار، التحديات والضغوط يمكن أن تكون دافعاً إلى الإنجاز ومحفزاً للتقدم وتطوير العمل إذا تم التعاطي معها بإيجابية وكانت في حدود المعقول ولمصلحة العمل. ونصيحتي الأخيرة، لا تكن سمكة تسبح بنشاط في حوض ضيق مع سمك قرش صغير ليتم أكلها في النهاية، بل كن كالأسماك التي تسبح بحرية وسعادة في البحر الواسع المليء بأسماك القرش والصيادين والدرر والخيرات الكثيرة والمناظر الجميلة...




http://www.alriyadh.com/2012984]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]