إن ديننا الذي نؤمن أنه دين ودولة، يوجب علينا السمع والطاعة لولاة أمرنا في غير معصية الله، ومعنى هذا طاعتهم في كل نظام أو أمر لا يخالف شرع الله، مهما كان صغيراً، أو كبيراً. ولا تعتذر بكثرة المخالفين، ولا بمخالفة المسؤول نفسه لو خالف..
في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أربعة عشر قرناً، وقد أرخى الليل سدوله، وهجعت العيون، إلا قليلاً، في واحد من البيوت أمٌ تقول لابنتها: يا ابنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. وهي بذلك تريد أن تكثر من اللبن ليكثر ثمنه؛ لأن النتاج لا يكاد يغطي مصاريفهما، ولا يكفي حاجاتهما، فغلبتها نفسها، ودعتها حاجتها إلى تلك الفعلة المحرمة أصلاً، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: من غش فليس منا. وهي عادة البشرية، تغفل وتنسى.
بيد أن البنت تجيب أمها بكل أدب، مشعرة إياها أنها قد نسيت، فهي تذكرها، قالت: يا أمتاه، أوما علمت بما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ فقالت الأم: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديه أن لا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر. فقالت الصبية التقية: يا أمتاه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلا. وفي رواية أخرى: قالت: إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا.
في هذه الجملة عبر وعظة، فليتنا نقف عندها، ونفهم مرادها، ونعمل بمدلولها، (ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلا). أو (إن كان عمر لا يرانا، فإن رب عمر يرانا).
ضع مكان (عمر) من شئت من المسؤولين، وولاة الأمر وتفقد نفسك، وحاسبها على هذا المبدأ، وسيتبين لك أنا في كثير من أمورنا لا نتعامل إلا مع (عمر)، ولا نقيم وزناً لرب عمر. وأنا نطيع في الملأ ونعصي في الخلا.
هناك من إذا غاب عنه (عمر) سعى ليفسد ولينتهك المحرمات، ومتى ظن أنه في محيط يراه فيه (عمر)، أحجم وكان من الصالحين.
كذلك المجرم الذي يهرب المخدرات، أو المسكرات، أو الأسلحة، مريداً إهلاك المجتمع بسمومه، أو بأسلحته هل كان رب عمر في مخيلته وهو يحاول جاهداً مخادعة الحراس والمفتشين؟
ذلك الموظف يسرق وقت دوامه كله، أو بعضه، بالأعذار الكاذبة، أو بتأخره عن الحضور، أو بتبكيره بالانصراف، أترونه يراقب رب عمر أو يراقب عمر؟
إن جل خوفنا من (عمر)، وليس من رب عمر، ومن هنا سوغ للكثيرين منا طرق التحايل، والخداع والغش، وعدم التنفيذ لما ينظمه (عمر)، فنطيعه في الملأ، ونعصيه في الخلا.
حين تكون الإشارة حمراء، فتنظر يمنة ويسرة، فلا ترى (عمر)، يمكنك أن تقطعها إن كنت تراقب (عمر)، ولا يمكنك ذلك إذا راقبت رب عمر.
حين تستخرج التأشيرات، وتبيعها على المستفيد، وتأخذ منه جهده وعرقه، وتتحايل على الأنظمة، لتأكل مال العامل المسكين، وتخالف الأنظمة التي تلزمك باستقدام من تحتاج إليه فقط فأنت قد استترت من (عمر)، وغفلت عن رب عمر.
نعم، إن من الممكن، بل والمتيسر جداً أن نكون في مكان لا يرانا فيه (عمر)، ولا منادي عمر، ولكن أين ذلك المكان الذي يسترنا من عين رب عمر؟ ومن رقابة رب عمر؟ وأين ذلك العذر الذي يغني عنا حين نقف بين يدي رب عمر؟
إن ديننا الذي نؤمن أنه دين ودولة، يوجب علينا السمع والطاعة لولاة أمرنا في غير معصية الله، ومعنى هذا طاعتهم في كل نظام أو أمر لا يخالف شرع الله، مهما كان صغيراً، أو كبيراً.
ولا تعتذر بكثرة المخالفين، ولا بمخالفة المسؤول نفسه لو خالف، فأنت ستسأل عن نفسك، وعما جنته يداك، ولن تسأل عن تقصير فلان أو عجز فلان. هذا، والله من وراء القصد.
http://www.alriyadh.com/2035527]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]