"النصر بمن حضر" هكذا قال الأمير عبدالرحمن بن سعود -رحمه الله- وهي من أشد العبارات المجتمعية شهرة في التداول حتى يومنا هذا، بل أصبحت تستعار في كل محافل الحضور والغياب ليس لتأثيرها وصدقها فقط، بل لملامستها المعنى الإنساني العميق في الحضور..
أستشعر هذه المعاني أمام بذخ الدعوات وكثرتها وتصاعد فكرة الحضور لدرجة تحتاج إعادة تأمل وسؤال للذات: هل حضوري بالفعل (نصر) للحاضرين؟ أم هي مجرد مجاملات وتبادل مصالح؟، وهل من يحضرون هم حاضرون بالفعل بالأذهان والمشاعر أم مجرد حضور مادي مفرغ لالتقاط "سيلفي"؟
النصر بمعناه المفاهيمي الواسع هو تحقيق الأهداف بغض النظر عن حجمها أو مداها أو حتى معناها، وفي ظل تزايد مستهدفات العلاقات العامة وصناعة مشهد اتصالي مهني في عصرنا اليوم، فإن الالتزام بمحاضرة أو لقاء يعكس الكثير من المهنية، بل شاهدنا جميعا كيف أن تخلف أحد الضيوف أو استهتاره قد يحرج الجهة المنظمة والأسماء المهمة.
الانضباطية مهارة وهي بكل صراحة تجعل الجماهير تفضل نجوما عالميين دون سواهم وتميل للمفكر صاحب المنطق والعطاء المنظم أمام العبقري الأهوج أو المبدع المستهتر، فإن الوقت اليوم كما يبدو تضاعفت قيمته، ومن يمنحك اليوم من وقته ليشاهد ما تنتج أو يقرأ ما تكتب أو يستمع لما تقوله هو صاحب فضل متقدم عليك، بل صناع الإعلام اليوم أمام معضلة أخلاقية حقيقية بين الاستحواذ على شهية المشاهد وبين تقديم ما يليق به، خاصة أن المنافسة الفنية والثقافية في أعلى مستوياتها.
غوستاف لو بون وتفسيره الشهير لنفسية الجماهير لم يغفل التنوع الثقافي والذهني لهم، واليوم ونحن أمام ملايين الدعوات لتدشين أو تمكين تجد أن الحكمة في تقنين تواجدك أنت كفرد، وأن تتسق بمحض إرادتك مع محيط يشبهك، وأن تحرص عند المثول أمام الجماهير بعدم سلب وقتهم وتقدير مجيئهم لك، وتأكد أن تتجرد من ذاكرتك للمواقف التي لا تعني للمستمع شيئا، أو خبراتك السلبية عن بلد أو عرق أو فكرة، فلا تنسى أن في كل مكان وزمان هنالك دائما من هم أذكى منك، بل ستجد من هم أجدر بالفعل بالوقوف على المنصة مكانك، وتماما كما أصل لو بون "لا تعتقد أن مجرد البرهنة على صحة فكرة ما يعني أنها سوف تفعل مفعولها حتى لدى الناس المثقفين".
بلا شك أن هناك نظريات عديدة تفسر الحضور اليوم، منها نظرية الحضور الاجتماعي ونظرية الثقة المجتمعية، حيث تقوم الأخيرة على ستة عناصر أساسية لكسب هذه الثقة وهي: عنصر الحضور الاجتماعي، وعنصر الثقة، وعنصر الارتباط والمعنى من المشاركة المجتمعية الافتراضية، وعنصر الرضا وصولا إلى المشاركة المستمرة. إذاً فإن الاستمرارية كما نرى محك أساسي لفاعلية الحضور، وأتفق هنا مع فكرة الباحث شارت "أن الحضور الاجتماعي يمثل درجة بروز الشخص الآخر في التفاعل وما يترتب على ذلك من بروز في العلاقات الشخصية".
عطفا على ما سبق، لا بأس بالغياب إن لم يكن للحضور معنى، ولا عيب في أن تكون "آخر لسان يتكلم في زمان الثرثرة" لشاعرها حامد زيد.. دمتم بسلام.
http://www.alriyadh.com/2037513]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]