يقول الباحثون: إنّ أيّ تغيير أساسي في ميزان القوى على الساحة العالميّة كان دائماً مصحوباً أو ملحوقاً بتغييرات متسارعة في تركيبة النظام العالمي. وشواهد الحاضر اليوم تقول: إنّ انهيار الإمبراطوريّة السوفيتيّة (الاقتصاد والدولة والأيديولوجيّة) (نهاية الثمانينات) أدّى إلى سقوط النظام ثنائي القطب. وبعد ذلك وطوال التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تمكّنت الولايات المتّحدة من توسيع نفوذها لتكوّن عالماً أحادي القطب تقوده وتوجّهه واشنطن، ولكنّ الحال اليوم يقول: إنّ هذا الوضع بدأ يترنّح وفي سبيله إلى السقوط.
وقد بدأت ملامح هذا السقوط خلال العقدين الماضيين مع اتّساع دائرة عدم الرشد الأميركي في توظيف الاستفراد بالمسرح السياسي العالمي. يضاف إلى ذلك الخلل البنيوي الواضح في بنية النظام الداخلي الأميركي، ثم تسارع تأثير التغيرات الجيوسياسيّة العالميّة (الصين، روسيا)، وظهور قوى متوسطة جديدة، والتغيرات الاقتصاديّة والديموغرافيّة الحاليّة والمتوقعة في دول مركز إسناد النظام العالمي ذي القطب الواحد.
وحين نتتبّع ما رصدته المصادر عن تاريخ الاستقرار والحروب في قارّة أوروبا (بوصفها مركز العالم لعدّة قرون) نجدها تقرّر أنّ أيّ نظام عالمي يستقر فقط حين تعترف به وتدعمه الجهات الفاعلة الرائدة، ويستمر هذا النظام عادة من ثلاثة إلى أربعة عقود، أو حتى أقلّ من ذلك. وهكذا، فإن النظام الذي كان قائماً قبل الثورة الفرنسيّة (1789) كان فعّالاً لمدة تقل عن 30 عاماً. كذلك تم تدمير النظام الذي تم إنشاؤه بعد الحروب النابليونيّة ومؤتمر فيينا بسبب ثورات 1848-1849 وحرب القرم، وكان متماسكاً فقط لأقلّ من خمسة وثلاثين عامًا. ثم بدأ النظام العالمي اللاحق في التشكّل بعد ظهور الإمبراطوريّة الألمانيّة (1871)، لكنّه لم يتطوّر إلا في أوائل تسعينات القرن التاسع عشر، ودمرته الحرب العالميّة الأولى بعد أن حقق توازناً معقولاً لمدة تقل عن عقدين من الزمن. ثم كان هناك نظام دولي شكلته مخرجات الحرب العالميّة الأولى انتهى مع انتهاك ألمانيا لمعاهدة فرساي (1919) في عام 1935.
وحين خرج العالم (الغربي) من الحرب الثانية تشكّل نظام عالمي ثنائي القطب (غربي/ شرقي) وظل قائماً من عام 1945 إلى عام 1990، أي لمدة 45 عاماً تقريباً بدعم الأيديولوجيا أكثر من الاقتصاد، وكان ذلك استثناء لافتاً في طبيعة النظام الدولي. واليوم نجد أنّ الحال يتكرّر ففي خلال ثلاثة عقود تقريباً من الانفراد الأميركي (الغربي) بالقرار الدولي، ها هو النظام الدولي (وحيد القطب) يكاد يصل إلى نهاية عمره الافتراضي وفقاً لنبوءة (المعلّم الأكبر) التاريخ.
وتظهر في هذه اللحظة التاريخيّة مؤثّرات ومتغيرات تقنية وثقافية تبشّر بعالم جديد، ومخططون من عقليّات أخرى مختلفة للغاية عن كلّ ما سبق. وسيكون الحصاد مختلفاً بوصفه نتاج المقدمات التي بدأت مع تسارع توظيف التقنيات الجديدة للذكاء الاصطناعي، وتطوّرات العلوم البيولوجيّة. ولا ننسى مفاعيل الإنترنت وعلى رأسها وسائل التواصل الاجتماعي التي قلبت معادلة الاتصال والتواصل وغيّرت بشكل كامل طريقة عمل (تفكير) الناس واستهلاكهم وإنتاجهم للمعلومات.
وبناء على كل هذا هل يمكن القول: إن تصدّع النظام الدولي هو الذي أفرز حرب أوكرانيا، وخلل المنظومة السياسيّة في عدّة دول أفريقيّة، وربما حتى حالة الجنون الإسرائيلي في غزّة بوصفه آخر (ما يمكن القيام به) من جرائم النظام الدولي (الغربي) الآيل للسقوط؟
قال ومضى:
هذه ليست نبوءات، بل مدخلات تقود إلى مخرجات.




http://www.alriyadh.com/2038161]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]