من يبحثون عن الثراء الصاروخي هذه الأيام يشبهون من كانوا يشترون مكائن الخياطة في تسعينات القرن الماضي، بحثاً عن الزئبق الأحمر، وكلاهما خيالات يستحيل الوصول إليها، كما أن الاعتقاد بأفضلية المشروعات التجارية على الوظيفة الحكومية أو الخاصة، فيه تطرف وتوريط واضح من قبل بعض المنتفعين..
نشرت شركة (نايت فرانك) البريطانية تقريراً مهماً في العام الجاري، وجاء فيه أن إجمالي الثروات في المملكة سيرتفع بنسبة تتجاوز 10 % خلال 2024، ما سيجعلها في مقدمة الدول الشرق أوسطية، استنادا لمجموع أصحاب القدرات المالية العالية من مواطنيها، وسبق وأن أوردت الشركة نفسها في إحصاءاتها لعام 2022، بأن منطقة الشرق الأوسط تصدرت دول العام في نسبة نمو أعداد الأثرياء فيها، وأنها وصلت إلى قرابة 17 %، وبصافي أصول يزيد على 30 مليون دولار للشخص الواحد، ويحدث هذا رغم تأثر أصحاب الأموال الضخمة ومحافظهم الاستثمارية في كل دولة بالتباطؤ الاقتصادي العالمي، وبالارتفاعات المتكررة في الأسعار، وبحالات الارتباك الجيوسياسي، وربما كانت تقديرات التقرير صحيحة، ولكنها لا تعني أن كل سعودي سيصبح مليونيراً بطبيعة الحال.
حجم ثروات أغنياء العالم بحسب آخر أرقام (فوربس)، يقدر بحوالي 12 تريليونا وسبع مئة مليار دولار، وأميركا تستأثر بالحصة الأكبر وبأكثر عدد من أصحاب الأموال على المستوى الدولي، وحصتها تصل إلى أربعة تريليونات وخمس مئة مليار دولار، موزعة على سبع مئة وخمسة وثلاثين غنياً، ومع أن المال الوفير لذيذ ومطلوب من حيث المبدأ، إلا أن كوابيسه لا تنتهي، فقد توصلت دراسة أجريت في السويد، ونشرت في مايو 2023، بمشاركة جامعات سويدية وإسبانية وأميركية، وكان تركيزها على الفائزين بجوائز اليانصيب الكبري من الجنسين في السويد، والتي يصل متوسطها إلى 96 ألف دولار، إلى اعتبار الثروة المفاجئة سبباً في زواج الرجال العزاب، وأنها تؤدي إلى تراجع رغبة الرجال المتزوجين في الطلاق، وميلهم أكثر إلى فكرة إنجاب الأطفال، والمفارقة أنها تسهم في تحفيز النساء على طلب الطلاق والانفصال عن الأزواج، وبمقدار الضعفين، كغرض جانبي لشعورهن بالاستقلال المادي، ومحاولتهن البحث عن شريك أفضل، يناسب وضعهن الجديد.
الأهم من الثراء هو وصول الشخص إلى الحرية المالية، ويكون بتملكه لأصول متعددة، مداخيلها أعلى من مصاريفه السنوية، والأصول قد تأتي في شكل عقارات أو أسهم يستفاد من أرباحها كدخل، ومكاسبها الكبيرة لا تتحقق إلا بعد فترة طويلة نسبياً، كما هو الحال في الأسهم الأميركية، والتي ارتفعت في 110 أعوام، أو ما بين عامي 1900 و2010، بنسبة 1500 %، مع الانتباة إلى أن المضاربة خطرة وليس فيها ثروة، والاستثمار آمن بدرجة عالية، ومخاطره إن وجدت ليست مربكة، وبالأخص الاستثمار في البورصة وفي سندات الدولة والشركات، والاستثناء في حالة الشخص المصاب بمتلازمة الميتومونيا، التي تقوم على أوهام مركبة، ويتوقع صاحبها أن تطرق عليه الملايين باب غرفته، أو تنساق الأموال إلى سريره بدون مجهود أو مقدمات منطقية وبفعل الصدفة المطلقة، وهذه المتلازمة غير قابلة للعلاج المعرفي السلوكي، وتستمر مع الإنسان طوال حياته.
بخلاف أن بناء الثروة السريعة أمر مستحيل، ما لم تكن نتيجة لتورط مسوقها في جرائم غسل أموال، ولا يغير في ذلك واجهة العمل التي يستخدمها، كأن يكون دخلها لمؤثر على السوشال ميديا، أو لتاجر إبل، أو لمشارك في مزاين التيوس أو الدجاج أو غيرها، لأن مبالغها والمزايدات عليها لا يتصورها عاقل، إلى جانب الطلبات غير المنطقية، وإن كانت من الأصدقاء والأقارب، كتحويل مبلغ مليوني إلى الحساب الشخصي، أو تأسيس مؤسسة تجارية باسم الضحية مقابل الاستثمار فيها من وراء حجاب، أو المتاجرة في العملات المشفرة وأرباحها الخيالية.
في كل الأحوال، الأغنياء الكبار لا تتجاوز نسبتهم في العالم واحد في المئة، وهؤلاء يحتاجون إلى ممكنات لا تتوفر في كل مجتمع، وفي دراسة نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية، تبين أن العامل المشترك بين كبار الأغنياء هو مساعدة عائلاتهم لهم، ومن الأمثلة، عائلة إيلون ماسك التي دعمته في بداياته، ولديها أعمال ناجحة منذ فترة طويلة، ومعها والدة جيف بيزوس وزوجها اللذان كانا من أوائل المستثمرين في أمازون، ومارك زوكربيرغ الذي أخذ من والده قرضاً بقيمة 100 ألف دولار ليبدأ فيسبوك، ووالدة بيل غيتس التي قدمته لمديري شركة (أي بي إم) لإبرام صفقة معهم.
من يبحثون عن الثراء الصاروخي في هذه الأيام، يشبهون من كانوا يشترون مكائن الخياطة، في تسعينات القرن الماضي، بحثاً عن الزئبق الأحمر، وكلاهما خيالات يستحيل الوصول إليها، بالإضافة إلى أن الاعتقاد بأفضلية المشاريع التجارية على الوظيفة الحكومية أو الخاصة، فيه تطرف وتوريط واضح من قبل بعض المنتفعين، وتحديدا من يسمون أنفسهم مدربي الثراء والوعي المالي، وهؤلاء أكثر خطرا من الآخرين، بالنظر إلى تأثيرهم السلبي الكبير، والذي قد يحيل الشخص المستقر ماليا ومعيشياً إلى عاطل عن العمل ومفلس ومديون، ولعلهم يتحملون جزءاً محترماً من معدلات البطالة في المجتمع السعودي، ويتعاملون مع الشخص بوصفه سلعة يتربحون من ورائها، ولا بد من وضع حد لتصرفاتهم غير المسؤولة على المستوى الوطني، فالناس ليسوا فئران تجارب.
http://www.alriyadh.com/2038760]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]