التعليمُ تكوينٌ مفصليٌّ في حياة الإنسان، وهو يستدعي التعامل مع أعدادٍ غفيرةٍ متباينةٍ في مستوياتها الإدراكية وميولها وسائر المؤثرات، والتعلمُ بطبعه جهدٌ شاقٌّ له عقباتٌ تحمل النفوس هموم اجتيازها، ولكي يتحقق ذلك لا بد من تدبيرٍ يَحكُمُ تعاطي المؤسسة التعليمية مع الطالب، ويُنظِّمُ تعامل المعلم مع الطالب بحسب مراحل التعليم..
لا بد لمن يتحمل على عاتقه مسؤولية معينة أن يعتمد على التدبير الذي يُحقِّقُ به المصلحة ويدرأ به المفسدة، والتدبير روح القيادة التي إذا قويت استقامت الأمور ولو كانت صعبة المنال طويلة الطريق، وإذا اعتلَّت ساد الخلل والارتباك المشهدَ، مهما كانت المهمة سهلةً ميسورةً، كما أنه الحد الفاصل بين التربية المنتجة للفرد الإيجابي وبين الإهمال المفضي إلى ضياع الأجيال وهدر القدرات، وللتدبير آلياتٌ وإجراءاتٌ منها ما تعارف عليه الناس على مدى عمر حضارتهم وعلى امتداد تعايشهم ومعاملتهم، ومنها ما يبتكره اللاحق حسب الحاجة والإمكانات، ويغلب على من لم يُباشر المسؤولية المعينة تصوُّر إمكان أن تتحقق مصالحها وتندفع مفاسدها من غير اتخاذ التدبير المتخذ لأجلها، فينطلق من هذا التصور إلى الحكم بأن هذا التدبير مجردُ تكلفٍ والتزامٍ لما لا يلزم، فيُشوِّشُ على صاحب المهمة بالاقتراحات النابعة عن عدم الخبرة وضبابية الرؤية، ولي مع حقيقة المسؤولية وقفات:
الأولى: الشأن العام أولى المهمات التي تدعو الضرورة إلى أن يسودها التدبير، وقيامُ سلطةٍ تتولى تنظيم شؤون الناس أمرٌ تدركه العقول السليمة، وتتقبله الأعراف والعادات المتعاقبة، وقد جاء الشرع بتقرير ذلك وإيلائه أهمية بالغة، فجعله فرض كفاية على الناس، والشأنُ العامُّ شديدُ المراسِ يحتاج في مزاولته إلى احتياطاتٍ وآلياتٍ دقيقةٍ تضع في الحسبان الاستعداد للتصدي لكل ما يمكن أن يُعكِّرَ السلم والتعايش، ولا يقتصر ذلك على التدبير لمواجهة الإشكالات المعهودة والأنماط الشائعة التي عُرِفَ عن بعض الناس أنه يلجأ إليها للتعدي على حقوق الآخرين، بل يشمل معه الاحتياط لما لم يُعهد من أنواع العدوان حتى إذا لجأ المعتدي لابتكارِ وسيلةٍ يظنها عبقريةً خياليةً فوجئ بأن عند المسؤولين تدبيراً وتخطيطاً جاهزاً للتعامل مع مثل هذا، وأنه لم يَفجأهم على حين غِرَّةٍ، والواجب على عامة المجتمع أن لا يُشوِّشوا بتصوراتهم الخاصة على تدبير صاحب السلطة؛ إذ ليس من شأن من لا يُباشرُ الشأن العام أن يستوعب أوجه تلك التدبيرات ودقائقها مهما كان مستواه من الإدراك والفهم؛ ولهذا كان بعض علماء السلف يقول: "ما حاجة هؤلاء السلاطين إلى الشُّرَطِ"، فلما ولي القضاء كَثُرَ عليه الناس، فقال: "لا بد للسلاطين من وَزَعَة"، وقد ذكر بعض فقهاء الحنفية أن القاضي أبا يوسف لما تولى القضاء رجع عن بعض اجتهاداته في مسائل الخلاف؛ لأنه خبرَ الواقع الذي هو مناطُ الحكمِ في تلك المسائل.
الثانية: لا بد في تسيير شؤون الأسرة من تدبيرٍ تُنظَّمُ الأمور على وفقه، وهو خاضعٌ لقواعد الشرع والنظام، ولو خلا البيت من نوعٍ من هذا التدبير لم يتحقق فيه نجاح؛ إذ كل الطرق المؤدية إلى النجاح تُوازيها طرقُ إهمالٍ يحتاج المتربي إلى مُدبِّرٍ يصرفه عنها، وكثيراً ما يتصور المستفيد من هذا التدبير أن الإجراءات الحاكمة له مستغنى عنها وأنها مجردُ عبءٍ موضوعٌ على كاهله، لكنه إذا كبر وصار ذا أسرةٍ فسرعان ما ينجلي له أن التدبير سنةُ الحياة، وأن الحرص على مصلحة الفرد يُوجبُ تنظيم شؤونه وإبعاد الفوضى عن مسار حياته، وأن مدرسة البيت المنضبطِ الواعي أُولى المدارس التي تُعلِّمُ الانضباط، وتغرسُ حبَّ الوطن، ومن نجح فيها فحقيقٌ في أن ينجح فيما بعدها، ومع أن هذه الأمور مسلَّمات إلا أن المسلمات لا تنكشفُ على حقيقتها ما لم تُجرّب بالفعل، والدليل على ذلك أن من البدهيِّ عمق حب الوالدين للوالد ولا شيء يدعو إلى التشكيك في ذلك، لكنه لا يعرفُهُ على حقيقته إلا من صار والداً، حتى قالت العرب في أمثالها: "كَيْفَ يَعُقُّ وَالِدَاً مَنْ قَد وَلَدَ"، فَذَوْقُ طعمِ الأبوةِ أو الأمومةِ يُعينُ على ترك العقوق؛ لأنه جرَّب هذا الشعور العظيم.
الثالثة: التعليمُ تكوينٌ مفصليٌّ في حياة الإنسان، وهو يستدعي التعامل مع أعدادٍ غفيرةٍ متباينةٍ في مستوياتها الإدراكية وميولها وسائر المؤثرات، والتعلمُ بطبعه جهدٌ شاقٌّ له عقباتٌ تحمل النفوس هموم اجتيازها، ولكي يتحقق ذلك لا بد من تدبيرٍ يَحكُمُ تعاطي المؤسسة التعليمية مع الطالب، ويُنظِّمُ تعامل المعلم مع الطالب بحسب مراحل التعليم، ومع أن المراحل الأخيرة من هذه الرحلة العظيمة ينضج فيها الطالب ويكون مسؤولاً عن تصرفاته إلا أنها -في الجملة- كسابقاتها في أنها تستدعي وضع حدودٍ تفصل بين المسموح به؛ لتحقيقه المصلحة الضرورية أو الحاجية أو الكمالية، وبين الممنوع المنطوي على مفسدةٍ أو المفضي إليها، وهذه الحدود قد يَظلُّ الطالب ينظر إليها على أنها أثقالٌ تُرهقُهُ بلا داعٍ، لكنه إذا مارس التعليم أدرك أنها لا غنى عنها، وأنها وسيلةٌ ناجعةٌ، اتخذت للمصلحة لا للمضرة، وأن ما ظنه إشكالاً فيها ما هو إلا من الكُلفةِ التي لا يخلو منها العمل المثمر.
http://www.alriyadh.com/2039959]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]