مصالح المجتمع والوطن كلها محميةٌ لا مساومة فيها، وكما تُمنعُ التصرفات والأفعال المخِلةُ بها كذلك يجب أن تُمنع الأقوال الضارة بها، فالقول أخو الفعل لا فرق بينهما، ولا فرق بين انفلات الأفعال وانفلات الأقوال، بل الثاني أخطر؛ لأنه مغذٍّ للأول محفزٌ له....
تسيير الكلمة في الآفاق ليس مجردَّ تسليةٍ يتفكَّهُ بها من شاء متى شاء، بل هو مسؤوليةٌ لها أحكامها وضوابطها، والمصلحة العامة والخاصة تقتضي أن تكون قواعد الكلام ثابتةً واضحةَ المعالم مفصلةً بشكلٍ دقيقٍ لا لبس فيه ولا غموض، وليس من مصلحة القائل والمتلقي والمجتمع أن تُرفع تلك الضوابط ولا أن تكون مجردَّ خطوطٍ عريضةٍ وعموماتٍ مبهمةٍ، فالقائل أول من ينتفع بانضباط الكلمة ووزنها بمعيارٍ عادلٍ يحفظ الحقوق؛ لأن ذلك يحول بينه وبين أن يجرَّ على نفسه التبعاتِ، وأن يتورَّطَ في متاعبَ هو في غنى عنها، والمتلقي من مصلحته أن لا يُهدر وقته فيما لا جدوى فيه، أو ما فيه ضررٌ عليه في معاده ومعاشه، والمجتمع من أُسُسِ أمنِهِ واستقراره أن لا تشيع فيه الكلمة السلبية أو الفارغة من المضامين الإيجابية؛ ولهذا كان ضبط اللسان من تشريعات الإسلام لصيانة المجتمع، والمحافظة على تعايش أفراده بسلام، فكان القول الضارُّ من المحرمات، وبعض الأقوال العالية الضرر من الكبائر كالقذف والنميمة والغيبة، وفضول الكلام منهيٌّ عنه في الجملة، ولي مع انضباط الكلمة وقفات:
الأولى: تتفاوت المفاسد المترتبة على انفلات الكلمة، وأشدُّ الكلمات خطورة ما مسَّ بالثوابت والمقدسات الدينية؛ لأن الدين هو عصمةُ أمرِ الناس، فما مسَّهُ فقد فتح عليهم باب الشرِّ، وإذا كان الوازع الديني ضعيفاً عند أحدٍ من الناس -ولا يسوغ ذلك- فلا أقل من أن يعتبر أنه باستطالته على المقدسات الدينية يستخف بمشاعر المجتمع ويستفزها، وليس بعد عدم المبالاة بالدين وبالناس مثقال ذرةٍ من إنسانيةٍ، ومن الكلمات العالية الخطورة المساس بوليِّ أمر المسلمين وإشاعة ذلك بين الناس لا سيما في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فإن توقير السلطان من أسس عقيدة أهل السنة والجماعة، والاستخفاف به من أصول أهل البدع والأهواء، ولا شك أن نشر ما يمسُّ بمكانته هو من قبيل الاستخفاف به، ولا يمكن تبرير ذلك بإرادة النصح؛ لأمورٍ منها: أن نصح السلطان، والإشارة إليه بما ينبغي مهمةُ خواصِّ الناس، على أن تكون بالأساليب الشرعية، والآداب المرعية، وقد أشار إليها الإمام سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ بقوله: "لَا يَأْمُرُ السُّلْطَانَ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا رَجُلٌ عَالِمٌ بِمَا يَأْمُرُ عَالِمٌ بِمَا يَنْهَى، رَفِيقٌ فِيمَا يَأْمُرُ رَفِيقٌ فِيمَا يَنْهَى، عَدْلٌ فِيمَا يَأْمُرُ عَدْلٌ فِيمَا يَنْهَى"، مع مراعاة كون ذلك بالسِّرِّ لا الجهر، ومخالفة ذلك يُعدُّ من النيل من السلطان، والاستهانة به وكل ذلك مذمومٌ محرمٌ شرعاً، وفيه تقليلٌ من شأن سلطان الله في الأرض، الذي يزع العباد، ويحمي البلاد، كما أن في النيل من ولي الأمر إهانةً صريحةً للمجتمع، وتقليلاً من شأنه؛ لأنه رمز الكرامة والعزة، فليس في الشرع ولا في العقل ولا في قيمنا ومبادئنا الأصيلة ما يعطي أحداً حرية المساس بقادتنا.
الثانية: مصالح المجتمع والوطن كلها محميةٌ لا مساومة فيها، وكما تُمنعُ التصرفات والأفعال المخِلةُ بها كذلك يجب أن تُمنع الأقوال الضارة بها، فالقول أخو الفعل لا فرق بينهما، ولا فرق بين انفلات الأفعال وانفلات الأقوال، بل الثاني أخطر؛ لأنه مغذٍّ للأول محفزٌ له، ويجب أن تقف حرية الكلمة وراء حدودها، ولا أن تقتحم حريمها بشكلٍ من الأشكال، ويشمل ذلك المحافظة على قواعد تعايش أفراد المجتمع فيما بينهم، وما يتطلب ذلك من عدم إثارة الحزازات، والكفِّ عن كل ما من شأنه إيغار صدر هذا على ذاك، والبعد عن كل ما من شأنه التفريق، كما يشمل احترام قواعد تعامل الدولة مع الآخرين، فليس لأحدٍ الحق في أن يتحدث بما يمسُّ بالوطن بأي شكلٍ من أشكال المساس، ولا أن يتعاطى ما من شأنه التقليل من نصاعة صورته ووفور مكانته في النفوس، والعجب ممن تُسوِّلُ له نفسه أن يُضحي بالمصالح العامة العليا مقابل إشباع نهمة الكلام!
الثالثة: يجب انضباط الكلمة بقدر ما تجده من القبول؛ لأن تأثيرها بحسب إصغاء الناس إليها، فمن كانت له وسيلة لانتشار كلامه، فيجب عليه أن يكون دقيقاً في وزن كل لفظةٍ قبل التلفظ بها أو كتابتها، وأن يتحرَّى فيها وفي الاحتمالات التي يُمكنُ أن تُحمل عليها، فإن رأى أنها تجلب الضرر كفَّ عنها، وإن رأى أن لا إشكال فيها فله الإتيان بها، ومعلومٌ رواج الحديث عن الرياضة؛ للمتابعة التي تحظى بها عند محبيها، فعلى كل من يتحدث في شأنها في وسائل الإعلام التقليدية أو منصات التواصل الاجتماعي أن يكون مُحتاطاً فيما يقول، وأن يحترس من أن يصدر منه ما يتضمن الإساءة؛ لأن من شأن صدور ذلك منه أن يُثير البلبلة وردود الأفعال المتبادلة التي لا ينبغي أن يتبادلها أبناء الحضن الواحد.




http://www.alriyadh.com/2042459]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]