لا أعرف بالتحديد ما الذي يجعل مدناً تتميز عن سائر المدن، الذي أعرفه بالتأكيد أن "لشبونة" إحدى تلك المدن التي تأسرك من اللحظة الأولى، كما فعلت معي قبل خمسة عشر عاماً، وتذر فيك بعضاً منها.
عُدت إليها مرة أخرى، لأقضي أربعة أيام بديعة في إحدى أقدم عواصم أوروبا، القابعة على ضفاف نهر "التاج"، تلوح فيها القلاع والحصون، شواهد على التاريخ الغني للثقافات المتمازجة، بدءًا من الفينيقيين والرومان، ثم المسلمين وصولاً إلى الفترة الاستعمارية والاستقلال الوطني.
أُسرت بالحياة النابضة في شوارعها الضيقة والمرصوفة بالحصى، التي تجعلها تبدو كما لو بُعثت من كتاب حكاياتٍ عتيق، من مقاهي مزدحمة ومتاجر صغيرة إلى فناني الشوارع والعروض الموسيقية المحلية، ستجد نفسك مبتهجاً وسط جوٍ ساحر وأخّاذ.
أصحو باكراً، وأخرج حاملاً حقيبة ظهري، ولا أتوقف عن المشي بين الأزقة المتعرجة لأحياها القديمة مثل "بيكوس" و"موراري"؛ إلا لتأمل مباني العصور الوسطى، وبلاط "الزليج" الذي يميّز مباني الفترة العربيّة، وكأنما أعيش تلكم الحقب وسط تراحب الأهالي، أما حي "الألفاما" فلفت نظري بمبانيه الملونة، وقلعة "سانتا جورج" الشامخة، وإطلالة الفاتنة على المدينة ونهرها، وإن أحسست بالتعب ركبت إحدى المقطورات الصُفر لترام لشبونة الشهير ذي الرقم 28.
أعبر قوس النصر نحو ساحة التجارة "براكا دو كوميرسيو"، التي يتوسطها نصب تذكاري للملك على ظهر خيله، والحقيقة لا أروع من الهدوء والاسترخاء في هذه الساحة الواسعة على الواجهة البحرية.. أكمل مسيري محاذياً الشريط الساحلي حتى برج "بيليم"، الذي كان جزءاً من حصن للدفاع عن المدينة، لكنه دمر في زلزل عام 1755، ثم أعيد بناؤه في الجزيرة الصغيرة التي انفصلت عن البر بعد الزلزال، ثم إلى قلعة "سانتا ماريا دا بليها" بقصصها التي لا تنتهي.
تعّد الأطعمة والمأكولات في لشبونة تجربة شهيّة، على رأسها الحلوى البرتغالية الشهيرة: "الباستيل دي ناتا" و"الباكالاو"، وأطباق المحيط الأطلسي، مثل "البيسكو دو لشبونيس" و"البوكي دو بيكور وكالديرادا". والأروع تناول الساردين المشوي، الذي جُلب للتو من المحيط.
الرائع تعدد المتاحف والمعارض، وأروع ما زرت كان مركز "كالوستي دي سيرفا" للفن المعاصر، ومتاحف "بريرا" وغيرها من المراكز التي تستحق الوقوف ساعات طويلة.
في المساء صعدت إلى الحي البوهيمي "بايرو ألتو"، الذي شيّد في القرون الوسطى على سبعة تلال تطّل على المدينة، واستقطب الحياة الليلية والمتاجر العتيقة، حيث المطاعم والمشارب، التي يقدم أغلبها عروض حيّة لموسيقى "الفادو"، النابضة بروح البرتغال القديمة، من حنين للماضي إلى الحزن على مصارع القدر.
بقي لي هناك، زيارة حديقة "إدوارد السابع"، بممراتها المتعرجة ونوافيرها، إلى تجربة مصعد "سانتا جوستا" الفريد، إلى صهاريج الماء تحت الأرضية، وغيرها كثير! بالتأكيد سوف أعود مرات عديدة للشبونة، إذ إنني لم أكتفِ منها حتى الآن!




http://www.alriyadh.com/2050167]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]