كثير من النصائح والإرشادات الطبية تتحول إلى (أيدولوجيات طبية) يصعب مسها أو نقدها لفترة طويلة.. من كان يجرؤ مثلا (حتى وقت قريب) على معارضة مسببات الكوليسترول ومخاطر الدهون وسلامة الأغذية المملحة.. التي تمت تبرئتها مؤخرا.. من كان يجرؤ حتى عقد الستينيات على الحديث عن مضار التدخين حين كان الوسط الطبي يعتبره عادة صحية (وكان الأطباء يظهرون في الإعلانات وتحتهم جملة تقول: حتى الأطباء يفضلون مارلبورو)..
فالنصائح الطبية هي في النهاية أفكار وآراء تتغير بحسب الأزمنة والمصالح والاكتشافات التالية.. تشبة "الأيدلوجيا" من حيث مرورها بمرحلة نمو وازدهار وطغيان قبل أن تضعف وتنهار ويتضح فشلها للجميع..
وأعتقد أن أقدم أيدلوجيا طبية هي الاعتقاد الشائع بين شعوب العالم بأن فصد الدم وإخراجه يشفي المريض.. كانت الادعاءات تتنوع ما بين إخراج الشياطين والأرواح الشريرة¡ إلى طرد الدم الفاسد وتعديل أخلاط الجسم. ورغم أن إخراج الدم لا يضر الإنسان السليم (كما يحدث حين نتبرع بالدم) اتضح أنه يزيد المريض ضعفا كونه ببساطة يسلب منه الكثير من المغذيات وأجسام المناعة ونسبة لا يستهان بها من كريات الدم البيضاء.. المسؤولة عن تصيد البكتيريا.
وحين أعود بذاكرتي لسنوات قليلة مضت أكتشف عددا كبيرا من المراجعات والتعديلات التي انتهى بعضها بالتخلي عن إرشادات كانت من الثوابت الطبية.. فحتى وقت قريب مثلا كان الهرم الغذائي الأميركي (الذي تبناه الأطباء واقتبسته شعوب العالم) يتضمن في قاعدته العريضة الكربوهيدرات والنشويات مقابل التقليل من اللحوم والبيض والمنتجات الحيوانية.. غير أن هذا الترتيب الغذائي تسبب في ارتفاع نسبة السمنة والسكري لدى الناس¡ وما ينجم عنهما من مشاكل وعلل.. اتضح أن البيض والزيوت النباتية لا تتحمل مسؤولية الكوليسترول المضر¡ وأن اللحـوم (البيضاء بالذات) مصدر سليم للبروتين ولا ترتبط بالضرورة بالسمنة وأمراض القلب وانسداد الشرايين..
حتى الفيتامينات اتضح أن معظم الناس لا يحتاجون لتناولها (باستثناء حالات وأمراض معينة) في حين يمكن لمعظم الناس تناول الأطعمة المملحة (باستثناء من تسبب لهم ارتفاع الضغط).. وبعد أن كان الأطباء ينصحون المرأة المنجبة بالبقاء في المستشفى لأسبوع أصبحوا ينصحونها بالمشي والتحرك ومغادرته في اليوم التالي (خشية إصابتها بالعدوى)..
أما المفاجأة الحقيقية فهي عدم ضرورة تناول أدوية البرد والكحة والزكام (خصوصا لدى الأطفال).. فهذه الأمراض تتسبب بها غالبا فيروسات (لا تنفع معها المضادات الحيوية) والأعراض التي نلاحظها (كارتفاع درجة الحرارة) هي مظهر طبيعي من مظاهر مكافحة الجسم لها.. والمسارعة لتناول الأدوية المضادة ليس فقط (غير مفيد)¡ بل قد يتسبب بآثار جانبية ضارة للأطفال أخطرها حرمان الجسم من فرصة مقاومة الفيروسات بنفسه (بحيث يكبر الطفل ولديه مقاومة ضدها)..
.. ما يهمنا هنا هي الظاهرة وليست المتغيرات ذاتها.. ظاهرة لن تتوقف مستقبلا ولا أجد أمامها غير النصح بالاعتدال في تناول كل شيء.. وعدم التقيد بأي شيء.. والحذر من الانجراف خلف أي شيء..
وخير الأمور أوسطها.




إضغط هنا لقراءة المزيد...