-
الغاوون
لم تحسم الثقافة العربية موقفها من الشعراء¡ ولم تحدد مقاعدهم الدائمة داخل الوجدان الجمعي¡ فبعضهم غاوون وفي كل واد يهيمون¡ على حين عمر بن الخطاب أوكل إليهم ديوان العرب¡ وعبدالله بن عباس حبر هذه الأمة كان في مجلسه يردد مع شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة أبياته وقصائده.
وإن كان جميع هذا تحت قبة ثقافة كان الأدب والشعر أحد أعمدتها.
كان الشاعر وكالة إعلان بقدرات هائلة كنيازك متفجرة¡ فينام المتنبي عن شواردها ويسهر الخلق ويختصمون جراها وبين أبياتها¡ وعندما أنشد:
وقد زرته وسيوف الهند مغمدة.. وقد نظرت إليه والسيوف دم
فكان أحسن خلق الله كلهم.. وكان أحسن ما في الأحسن الشيم
فباد الملوك وتهاوت التيجان¡ وظل سيف الدولة الحمداني أزليا مخلدا بين أبيات قصيدة.
لكن في أزمنة الضمور الحضاري يضمر الشعر ويشحب ويغيب فرسانه¡ ويشيح عنه الناس¡ ويصمونه بالخفة والابتذال.
حتى وصلنا إلى مرحلة في عصرنا الراهن¡ جعلت بعض المتحذلقين وأشباه المثقفين يلصقون بالشعر التهم على أن جزءا من التخلف الحضاري للشعوب¡ محض فرقعات صوتية¡ وتسول!!
ولعل هذا النوع من الاعتقاد بالغالب ناتج قصور وعي معتقل داخل الطور النفعي البدائي من الحضارة¡ لم يستطع تجاوز النفعي¡ والارتقاء إلى الجميل المتحضر.
فبعض العلميين المقولبين داخل العلم الأمبريقي المخبري¡ بات العلم لهم كالعقيدة الأرثوذكسية¡ جحرا أو غرفة صخرية مصمتة¡ يعجزون التحرر منها والانطلاق إلى شمولية الحضارة.
ومع الأسف هذا القصور تسلل إلى الوعي الأكاديمي¡ فبات هناك طبقية علمية تحظى بها الكليات العلمية بالصدارة والابتعاث والتقدير الاجتماعي¡ بينما تتقهقر الكليات الإنسانية¡ لتصبح أحيانا مأوى عديمي المواهب¡ أو أولئك الذين لا يمتلكون شغفا حقيقيا بالمعارف.
العلوم الإنسانية من آداب وفلسفة وعلم اجتماع تبني الأفراد فكريا ومعرفيا وثقافيا¡ وتوسع آفاقهم وتثري معارفهم¡ وفق تصورات موضوعية وأرضية ثابتة.
العلوم الإنسانية تصنع أفرادا قادرين على تبني خطط التنمية التقدمية¡ متناغمين مع التحولات التي يتطلبها محيطهم¡ لا أن يتحولوا لحجر عثرة ومعوق للخطط المستقبلية.
وعلم الاجتماع يدرس طبيعة المجتمعات وتحولاتها والسنن والقوانين التي تحرك الأفراد والمجتمعات معا.
الإنسانيات وباقي العلوم كالأنابيب المستطرقة¡ بعضها يفضي على بعض¡ بل هي تحمي العلميين من قطعية العلم كحقائق¡ وتعد لهم حواضن المناخ الفكري والفلسفي الذي أنتج تلك العلوم وفلسفتها.
وفي الجامعات العالمية المتحضرة نجد أن كليات العلوم الإنسانية هي مراكز بحوث ومحاضن دراسات¡ تمد صناع القرار بما يحتاجونه من أرقام مفاهيم وقيم تساعدهم في بلورة وصياغة القرار.
بينما نجد أن كليات العلوم الإنسانية في الدول المتخلفة تشحب وتضمر¡ ويشيح عنها الدعم الأكاديمي الذي يتوازى مع دورها العميق والحيوي في خدمة المدنية والتحضر.
وإلى أن تحسم الثقافة العربية موقفها من الآداب والفنون ستظل تلك السمة المرتبكة تحاصرها¡ وتعيق دورها النهضوي المتكامل مع بقية العلوم.
إضغط هنا لقراءة المزيد...
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى