منذ ما يفوق الثلاثين عاما والإعلام المحلي يناقش قضية غلاء المهور¡ والبذخ والإسراف في حفلات الزفاف¡ وخطر العاملات المنزليات¡ أفردت لها الكثير من المقالات والتحليلات¡ ولن أقول الدراسات¡ فنحن على الغالب لا نخضع المجتمع للدراسات العلمية الاستقصائية للوصول للنتائج¡ بقدر ما نكتفي بالآراء الانطباعية والتخرصات.
لكن على كل حال هناك أدبيات ومادة إعلامية هائلة حول تلك القضايا في أرشيفنا الإعلامي¡ ورغم هذا لا نجد لها أثرا ملموسا على أرض الواقع¡ أو مؤشرات تشير إلى أن هناك تحولا اجتماعيا للاستغناء عنها.
وهذا بالتأكيد يقودنا إلى أن البرمجة الوعظية التي يقوم بها الإعلام لا تفلح كثيرا في صياغة الواقع¡ فاللاعبون الرئيسيون في الميدان أمور مختلفة تماما من أبرزها: الاقتصاد¡ فالنظرية الاقتصادية البسيطة الأولية تقول (مصروفاتك تتمدد بتمدد دخلك)¡ ومع ارتفاع القيم الاستهلاكية¡ ظلت وستظل المهور غالية¡ والحفلات باذخة¡ والخدم تحتشد في المنازل¡ نظرا لأن الفرد بات يستمد الكثير من حضوره ووجاهته الاجتماعية عبر القيم الاستهلاكية.
أيضا مجتمعاتنا لم تشهد مرحلة تحولات كبرى¡ أو تحولات اقتصادية تحدث قطيعة مع الماضي¡ كتحولاتنا من مرحلة ندرة ما قبل النفط¡ إلى مجتمعات الوفرة بعده.
لذا هذه العوامل ساعدت إلى الاستقرار وأيضا تكريس الوضع الاجتماعي السائد.
ولربما جزء من عدم الاستجابة للخطاب الإعلامي الذي يصنف نفسه توعويا¡ يرجع إلى أن المجتمعات تضمر قوانينها الخاصة¡ وتنظم أمورها بما يستجيب عن حاجتها وعلاقتها الداخلية¡ وأي تدخل من السلطات الإعلامية أو التنفيذية ستعتبره تطفلا على حيز مدني.
ليس هذا فقط بل تدخل الإعلام¡ هو توريط لأجهزة الدولة بالمزيد من المسؤوليات¡ وتعدد الأدوار الموكلة لها وإنهاكها بالمركزية¡ في كثير من القضايا التي من المفضل أن تترك للمجتمع¡ ومؤسسات المجتمع المدني التي قد تكون نقطة توازن بين طرفين¡ وتزيل بعض العبء عن الدولة.
وعادة تضخم وتمدد أذرع الدولة يكون على حساب حيوية الحراك المجتمعي¡ التي هي أمر ضروري لطفرات الإبداع¡ والتجدد والانغمار في المشروع المستقبلي.
الحيوية المدنية تحتاج حيزا من الحرية¡ وفضاء مدنيا ودودا قابلا على استقبال المبادرات¡ وممتلكا للمحاضن التي باستطاعتها أن تستثمر في الطفرات والقدرات¡ على مستوى المجموع أو الأفراد.
والمجتمعات المدنية الحديثة تترك لشرائح المجتمع خياراتهم المستقلة التي يتوافق فيها كل منها مع وعيه¡ وبيئته¡ وخصائصه الثقافية¡ وبحسب الطريقة التي اختارت كل شريحة أن تشغلها في الفضاء العام وتعبر فيها عن نفسها¡ بحيث يتحول الفضاء المدني إلى مضمار للتعددية والثراء الثقافي.
وعلى الجهات التنفيذية أن ترقبهم من كثب¡ لتأمين السلام المجتمعي¡ بحيث يغدو تدخل السلطات التنفيذية في حده الأدنى في حال وجود ما يهدد سلامة المجموع أو يخدش قيمهم.
ودون هذه الفضاءات الإيجابية الخلاقة المفتوحة على العالم والمستقبل¡ فسيتهلهل النسيج الاجتماعي¡ وسينسحب منكفئا على الانتماءات الضيقة من طائفية وقبلية.
لذا مهما كان الخطاب الإعلامي ضاجا وتعبويا¡ فإن المجتمعات في الغالب تحتكم في حراكها إلى ظروف ميدانية خاصة بها¡ ومستجيبة لتفسيرها للعالم حولها.




إضغط هنا لقراءة المزيد...