حرية التعبير¡ كما ظهرت في حال البشر مع لغاتهم¡ قَدَر كتبه الله تعالى على الإنسان¡ وأراد له أن يعيشه¡ ويتحمّل أعباءه¡ ولولا حرية التعبير التي منحها الله الإنسان ما وُجدت اللغات¡ ولا ظهر هذا التنوع اللغوي المدهش الذي نعجب منه¡ ونحار في تفسيره..
في اللغة شيء من صفات الإنسان وخِلالهº فالمنتَج على قدْر المنتِج¡ وهذه قاعدة تصدق على كل شيء¡ من الإنسان إلى النبات وثماره¡ وفكرة الوراثة فكرة عامة¡ تصدق على أمور كثيرة¡ وليست شيئا مقترنا بالإنسان والحيوان والنبات¡ فكما يحمل الإنسان عيوب آبائه وأجداده¡ وتنهض في الحيوان صفات أسلافه¡ وتقوم في النبات سمات أول سلالة منهº فكذلك اللغة ترث من الإنسان صفاته وسماته¡ وتحمل ما كان فيه من عيوب ومزايا¡ وهي حديث عنه¡ وخبر عما فيه¡ أكثر من أن تكون حديثا عن واقعه وأشيائه المحيطة بهº إنها تنقل لنا ما يجول في نفسه أولا¡ وتُلّون به ما يحيط به.
اللغة هي الوجود الثاني للأشياء والأفكار¡ بها يصوغ الإنسان عالم الأشياء والأفكارº فالأشياء موجودة قبل اللغة¡ ومعروفة قبل استعمالها¡ والأفكار حاصلة من علاقات الأشياء¡ وكائنة من ملاحظة ما بينها¡ وليست وليدة وجود اللغة¡ وخارجة من استعمالها¡ وما دامت الأشياء تسبق اللغة¡ وتأتي قبلهاº فكذلك هي الأفكار¡ تسبق اللغة¡ وتحصل قبلها¡ واللغة تُختزل الأشياء والأفكار¡ وتتحدث عنهما عبر لباس من الألفاظ والأصوات¡ فهي لا تخلق الأشياء¡ ولا تصنع الأفكار والمشاعر¡ هي وسيلة نقل لهما¡ وطالما كانت اللغة عاجزة عن نقل كثير من الأفكار والمشاعر¡ يشعر بهذا مستعملها¡ ويجده المتوسل بها.
تنبه الفلاسفة منذ القدم إلى الاختلاف بين اللغة والتفكير¡ وأن اللغة ليس سوى علامة على ما في النفس تجاه الواقع¡ وصورة له¡ يقول الأستاذ أرسطو: "إن الألفاظ التي يُنطق بها دالة أولا على المعاني التي في النفس¡ والحروف التي تُكتب دالة أولا على تلك الكلمات. وكما أن الحروف المكتوبة¡ وأعني الخط¡ ليس واحدا بعينه لجميع الأمم¡ كذلك الألفاظ التي يعبر بها عن المعاني ليست واحدة بعينها عند جميع الأمم. ولذلك كانت دلالة هاتين بتواطؤ¡ لا بالطبع" (ابن رشد¡ تلخيص كتاب أرسطو في العبارة).
تقودني مقالة الأستاذ إلى أمورº أولها أن المعاني (الأفكار) سابقة للغة¡ ومتقدمة عليها¡ وتقدّم الأفكار على اللغة كتقدم الكلمات في الوجود على الخط¡ وإذا كان الإنسان فكّر طويلا في تصوير لفظه بالخطº فهو كذلك مكث مدة حتى يختار لفظا للمعنى الذي في نفسه. وثانيها أن الوجود اللغوي أو وجود الأشياء باللغة وجود ثان¡ فالمعاني أولا وأرديتها ثانيا¡ وتقدّم المعاني على اللغة بيّنة في تقدم الأفكار على اللغة نفسها في أصل المنشأ. وثالث الأمور أن الاختلاف بين الأمم في العبارة عن أفكارها والمعاني التي في نفوسهاº حجة ظاهرة على سبْق الأفكار والمعاني للغة¡ فكثير من المعاني متحدة بين الأمم¡ وما فيه اتفاق وتلاق متقدم في الوجود على ما فيه اختلاف وافتراق. ورابعها حسب قول الأستاذ أن الألفاظ تدل على المعاني بالاتفاق بين الناس والتواطؤ بينهم¡ وليس دالة على الأشياء بالطبع¡ وهذا يؤكد تقدم الأفكار والمعاني عليهاº فالناس ما اتفقوا ولا تواطؤوا إلا على دلالة الألفاظ على ما في نفوسهم¡ وهكذا تكون الأفكار والمعاني متقدمة على اللغات¡ وليست اللغات سوى الوجود الثالث للأشياء¡ فهي أولا في الواقع¡ وثانيا في الأذهان¡ وثالثا في اللغة.
ربما كانت اللغة¡ بألفاظها ودلالاتها وطرق بنائها¡ هي أول صور الخلاف بين البشر في فهم الأشياء¡ واستيعاب الواقع¡ وعلى بساطها ظهر وجود ثان مُواز للوجود الأول¡ كان البشر يتعاملون مع الأشياء¡ ويتأمّلونها¡ وحين نشأت اللغة صاروا يتعاملون مع صداها في نفوسهم¡ وابتعدوا قليلا أو كثيرا عن الأصل¡ وما كان لهذه الحالة البشرية¡ من الاختلاف حول اللغة ونشوء عالم جديد لوجود الأشياء بين جنباتها¡ أن تنشأ وتقوم لولا حرية التعبير التي مُنحها الإنسان¡ وأُذن له بها¡ وكُتب عليه من خالقه أن يعيش ظروفها التي تدعوه إليها¡ وتدفع به نحوها.
حرية التعبير¡ كما ظهرت في حال البشر مع لغاتهم¡ قَدَر كتبه الله تعالى على الإنسان¡ وأراد له أن يعيشه¡ ويتحمّل أعباءه¡ ولولا حرية التعبير التي منحها الله الإنسان ما وُجدت اللغات¡ ولا ظهر هذا التنوع اللغوي المدهش الذي نعجب منه¡ ونحار في تفسيره¡ فاللغات ثمرة دانية من ثمار حرية التعبير¡ وعلى بساط هذه اللغات بُنيت حضارة الإنسان وثقافته¡ وقام كل اختلاف بين البشر عليه¡ فما نراه¡ وما سيراه من بعدنا¡ يعود الفضل فيه إلى تلك الجبلة التي ذَرَأَ الله تعالى عباده عليها¡ وهي حرية التعبير¡ فلولا إرادة الله عز وجل لما وقع هذا الاختلاف الكبير بين الناس في اللغات¡ وجرّ معه كثيرا من اختلافهم¡ وصعّب من التفاهم بينهم¡ وتلك هي إرادة الله تعالى¡ وعلى مَنْ يرفض حرية التعبير¡ ويسعى جهده أن يصير الناس نسخة له¡ أن يفطن لهذا المعنى¡ ويلتفت إلى هذه القضية في تأريخ لغات الخلق¡ فالله أعلم بشؤون عباده¡ وأدرى بما يُصلحهم¡ و(ولو شاء ربك لجعلكم أمة واحدة¡ ولكن ليبلوكم فيما آتاكم¡ فاستبقوا الخيرات¡ إلى الله مرجعكم جميعاً¡ فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).
إضغط هنا لقراءة المزيد...