سابقت أثينا التاريخ وسبقته إلى التلة العليا¡ ونهضت بالأكروبوليس هناك¡ ليطل من بين أعمدته الآلهة والفلاسفة ومجلس حكماء يتنازع الديمقراطية¡ ودروب تعبدت بخطوات المشائين والسفسطائيين.
بلاد الإغريق¡ أمشاج العقل الأولى داخل سديم حيرة البشرية¡ أسئلة سقراط¡ مدينة أفلاطون¡ ومنطق أرسطو.
ذهبت هناك وبرفقتي بوصلة كاتبها العظيم وأحد أعمدة الأكروبوليس كازنتزاكي¡ أبحث عن الدهشة (التي جعلها أكبر أفراح البشرية)¡ وعن بواكير زهر شجر اللوز تتأهب للحديث عن الله.
وكان محتما أن أصطحب مقطوعات ياني وفانجيليس¡ لتحلقا بي بعيدا عن أوجاع الصلصال البشري باتجاه مجمع الخلود في دلفي.
جميع أولئك برفقتي كمفاتيح صغيرة تدخلني إلى جزر ايثاكا¡ وسائحة لا تملك الكثير من الجيوب لتعبئ فيها جميع الحكايات. إذا أردت أن تتعرف على طبيعة سكان شواطئ الأبيض المتوسط مصفاة نقية فاقعة¡ فستجدها حتما في الجزر اليونانية¡ البهجة الفائرة¡ الدماء الضاجة في عروقهم¡ الاحتفاء بالمتع اليومية الصغيرة¡ ومناولة الغرباء في أول لقاء سطور حميمة من سيرتهم الذاتية¡ زيت الزيتون الذي ستكتشف نكهته في كل طبق¡ فإذا تصادف كل هذا مع قيامة الربيع¡ ونفرة (ديمترا) إلى الأشجار لتوقظها من بياتها الشتوى¡ فأنت قد اخترت توقيتا ملائما للتمتع بطقوس الحضارات الزراعية¡ وهي تراقص الطبيعة ودراما الكون ما بين موت شتوي وقيامة ربيعية.
ما برحت المتاحف والمنشورات السياحية تفخر بهزيمة الفرس وإغراق مراكبهم في خليج سارونيك قرب أثينا عام 480 قبل الميلاد¡ ولم أكن بحاجة إلى المزيد من المعارف حول حرب التحرير من العثمانين¡ فروايات كازنتزاكي خلدتها متاحف تتناقلها الأيدي.. لكن اليونان اليوم تتحجر عاجزة عن مقارعة وحوش الاقتصاد.
لم يكن مزاج الإغريق رائقا هذا العام¡ ولا أظنه كان كذلك في الأعوام القليلة الماضية¡ فاقتصادهم الصغير المرتبك¡ بات سمكة صغيرة مذعورة وجائعة داخل حوت الاتحاد الأوروبي¡ ولا يبدو أن هناك خريطة لمركب عوليس¡ تنجو به من ضباب الديون¡ ولم تصل بعد شعلة الأولمب إلى ملعب بانثانيك في اثينا¡ وبينلوبي زوجة عوليس تنقض غزلها مولولة كلما اتخذت الحكومة هناك المزيد من الإجراءات التقشفية.
زرت اليونان قبل أعوام طويلة¡ كانوا عندما يأكلون ويستمعون للموسيقى يستخفهم الطرب ويكسرون الأطباق¡ لكن الآن لم تعد المطاعم تكسر الأطباق¡ فلم يعد هناك أيدٍ تزخرف الأطباق بصور الحوريات والمراكب والمراسي¡ فقط الأيدي مشغولة بالإشارة إلى الفساد الذي تفشى في الأجهزة الرسمية¡ وأفضى إلى الانهيار الاقتصادي في اليونان¡ رغم مدخولاتها السياحية¡ ودعم الاتحاد الأوروبي لها إلا أن سفن الأموال حينما تدخل جزر الإغريق تتبخر.
الصفوف المدرسية هي بوارق الأمل لديهم¡ تركت المباني وانتقلت للمتاحف والحدائق والمعابد¡ لتخوض مغامرة المعرفة عبر الحواس الخمس¡ ومعلمات ينقلن المعلومات بود وإخلاص كجدة تكتب وصيتها الأخيرة¡ تشعر وجيوش الصغار حولك في كل مكان¡ بأن هذه الوجوه النضرة المستبشرة هي النجوم التي تبرق في تيه عوليس الطويل.




إضغط هنا لقراءة المزيد...