يظن كثير من الباحثين والمهتمين بالشأن اللغوي والأدبي أن كتب النحو ما هي إلا مصنفات تقعيدية، وأن الأثر الأدبي، أو المسحة الجمالية قد لا تتوافر في خطاباتها، والحق أن هذا غير دقيق؛ لأننا قد رأينا في غير كتاب نحوي بعض مظاهر تتسم بأدبية الخطاب، سواء من حيث تداوليته، أو حكائيته، أو سيميائيته، وسواء أكان ذلك في عنوان الكتاب النحوي، أم في مقدمته، أم خاتمته، أم في بعض فصوله وأبوابه، أم في غير ذلك.
ولئن ذهب (الإنشائيون) والمهتمون بشعرية الخطاب إلى أن الأدبية هي ما يجعل من غير الأدب أدباً، فإننا والحال هذه نستطيع النفاذ إلى كثير من الوسائل التي تؤدي إلى جعل خطاب غير أدبي خطابا أدبياً متسماً بجمالية معينة، أو شعرية محددة؛ وكما قال الناقد والفيلسوف البلغاري الفرنسي (تزفيتان تودورف 2017م): «ليس العمل الأدبي في حد ذاته هو موضوع الشعرية، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النوعي»؛ إذن فنحن لا يهمنا العمل الأدبي لنرصد أدبية خطاب بعينه، ولكن ما يهمنا هو خصائص ذلك الخطاب حتى وإن لم يكن أدبياً».
إننا مثلاً حين نطالع كتاب سيبويه (ت 180هـ) إمام النحويين، نجد في بعض مواضعه جانباً من الجمالية يجمل بنا أن نلمح إليها على الأقل؛ فبعيداً عما يحويه من مادة شعرية ضخمة وفخمة، نلمس أولى ظواهر الأدبية فيه متجلية في ذلك البعد المقامي الذي يعتمد على الاعتناء بالمخاطب، وإعطائه قيمة عالية من الاهتمام والتفاعل، مع شيء من التنظيم، والإثارة، والتشويق، والافتراضات، والإحالات التوجيهية التي تنبئ عن مبدأ تعاوني بينه وبين مخاطبه كما في قوله: «وإنما ذكرتُ لكَ ثمانية مجارٍ لأفرق بين ما يدخله ضرب..»، وقوله: «ألا ترى أنك لو قلتَ: إن يضرب..»، وقوله: «وترى ذلك في موضعه»، وقوله: «ويبيّنُ لكَ أنها ليست بأسماءٍ أنك لو وضعتها مواضع الأسماء لم يجز ذلك».
إن أسلوب (الفنقلة) في كتاب سيبويه كفيل بالكشف عن ملامح جمالية كثيرة؛ فهو يشكّل ظاهرة ملحوظة في كثير من مواطن كتابه، وأذكر أن غير دراسة تناولت هذا الجانب (الفنقلة) في كتابه، وفي بعض المصنفات اللغوية الأخرى، مما يوحي بأن هذا الأسلوب عند سيبويه وغيره، ينبئ عن أبعاد تداولية متنوعة، تعطي دلالة واضحة على انضباط الخطاب، وأدبيته، وبلاغته، هذا بالإضافة إلى الأغراض المقامية، والسيميائية التي يطفح بها الكتاب.
ومن الغريب أن تجد كتاباً رائداً في التأصيل اللغوي، والتقعيد النحوي، ككتاب سيبويه، يميل بخطابه -أحياناً- إلى حيث الخطاب الإبداعي، حيث رأيناه في غير موضع يسجع ويجنّس كما في قوله: «واعلم أن ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء في الكلام، ووافقه في البناء، أُجريَ لفظه مجرى ما يستثقلون، ومنعوه ما يكون لما يستخفّون»، كما لمسنا بعض آثار حكائية في خطابه كقوله: «وحدّثنا بعض العرب أن رجلاً من بني أسدٍ قال يوم جبلة، واستقبله بعيرٌ أعورُ فتطيّر منه، فقال: يا بني أسدٍ، أعورَ وذا ناب، فلم يرد أن يسترشدهم...»، ومثل ذلك قوله: «سمعنا بعض العرب يقول لرجلٍ: لا تكونن مني في شيء إلا سلامٌ بسلامٍ...» والشواهد كثيرة.




http://www.alriyadh.com/1882155]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]