الاعتدال دعوة إنسانية، تُوجبها عليك محبتك أن يعرف الناس ما عندك، ويروا ما بين يديك، ولن تنصر ما لديك في عالم اليوم بخير من الاعتدال، فبه تقرُب من البشر، وتدنو منهم، وقد نُسب إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام قوله: «لا خيرَ في صحبة مَنْ لا يرى لك مثلَ الذي ترى له..
الحياة كلها أدوار، وهي لهذا تُشبه المسرحية، وإن أردت الدقة: المسرحية تُشبهها وتُحاكيها، وللدور الذي تشغله في الحياة أثر كبير عليك، وكثيرا ما فَرضت عليك المقادير والظروف أن تتولى دورين منها أو أزيد، ولكلّ دور مفهوم محدد قبلك، ينبغي عليك متى وقفت فيه، وقمت بمهامه؛ أن تستوعبه وتدرك أبعاده وتعرف حدوده، وإذا كان المسرحيّ يتدرّب على دوره، ويتقمّص الشخصية التي يُمثّلها، ويتظاهر بكل ما يجعله أقرب إليها، وأبرع في العبارة عنها؛ فكذلك نحن في حياتنا، نقرأ نص الدور الذي سنقوم به، ونتفحّص قدرتنا في تولّي أعبائه؛ حتّى يصدق علينا أننا قمنا بواجبه، وأدّينا فرضه، ونفذّنا ما يُراد من ورائه، ومعظم ما نراه من تأخر وتباطؤ وتثاقل حركة في بلادنا وغيرها من بلاد العالم؛ فراجع إلى أنّ رجل المسرح الذي اخترناه لم يُتقن دوره، ولم يُفلح في تمثيله، ولم يكن مستعداً له؛ فاحكموا على الحياة في مستوياتها المختلفة، الأسرية والاجتماعية والفكرية وقبل هذا كله الدينية، مِنْ خلال هذا المبدأ، هي أدوار رُسمت قبلنا، وخاض في تشكيلها الحكماء لنا، وقالوا فيها ما يُمكن أن يقال، أو معظم ما كان ممكنا، وما علينا سوى الوعي بها، والدرك لما أرادوا منها، وكما قال إمام القراء ابن مجاهد: "نحنُ إلى أن نُعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا" (تاريخ الإسلام، 8/ 65).
ورجال السياسة وكتّابها قبلنا وصفوا بدقة أدورَاها، وأوضحوا بجلاءٍ ما يُرتقب من السياسي أن يتحمّله، وينوء بوِقْره (الوِقْر: الحمل الثقيل) وكان من ذلك ما حكاه هيوم في (الطبيعة البشرية، 568) عنهم قائلاً: "يقولون: لنا: إنّه في كل نوع من التواصل، يجب النظر للكتلة السياسة على أنّها شخص واحد، والحقيقة أن هذا التأكيد سليم إلى حد بعيد، ذلك أن الأمم المختلفة، كما الأفراد، تتطلب المساعدة والتبادل"، وذا معناه أنّ قادة البلدان، وسِياسيي الدول، لهم مواقعهم المختلفة، وأدوارهم المنتظرة، التي تجعلهم يُباينون سائر المواطنين، وينظرون إلى الحياة بغير طريقتهم، فليس تفكير مَنْ يقوم على عائلته، ويتفقد شؤونها، كتفكير مَنْ يقوم على ذلك من حيّ كامل، أو يرعاه في مدينة مترامية الأطراف، وما شأنُ امرئ يحفظ مذهبه، ويتحرّى صيانته، ويدفع الّتهم عنه، كشأن امرئ قادته الأقدارُ أن يكون وصيّا على المذاهب جميعاً، يرعى حقها، ويصونُ أواصرها، ويتولى أمرها، وما أبعدَ الشقة بين هؤلاء وبين سياسي يرصد نفسه خدمةً لشعب وحراسة لدولة!

إن قادتنا، وولي العهد أحدهم، في دعوتهم إلى الاعتدال، وذهابهم إليه، وحرصهم عليه؛ ينطلقون من مركزهم الذي يُطلّون إلى الحياة منه، ويُراقبونها من موقعه، وما حال من يمشي في بطن الوادي كحال مَنْ يُشرف عليه من أَكمة، ويطّلع على ما فيه، وهذا الموقع الكريم الذي يحلّه القادة، ويُتابعون ما يجري فيه، دعاهم إلى هذه الدعوة الحكيمة، التي ذكّر بها ولي العهد -حفظه الله تعالى-، وهي دعوة بها تُصان حقوق أهل الداخل، وتُحترم اختيارات المجتمعات والدول، وتستلزمها المساعدة بين الدول والتبادل بينها، وتتحقق بها المقاصد الدينية والأهداف الإنسانية.

هي دعوة دينية، ومن مظاهرها الجليّة؛ أنّ الله تعالى في كتابه الكريم جعل في مواضع عديدة من كتابه، تفوق العشرة، وظيفةَ الرسل عليهم الصلاة والسلام في البلاغ، «فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ» وقال عز اسمه: «فهل على الرسل إلا البلاغ المبين» وقال: «وما علينا إلا البلاغ المبين»، وما دام خير البشر أساسُ دعوتهم البلاغ والبيان، ولم يُؤمروا في إيصال الدعوة بغيره، ولم يُكلّفوا سواه، فنحن أولى بهذا منهم، فهم المؤيّدون بالوحي من عنده سبحانه، وهم الذين كانوا يُخاطبون أقوامهم وأهل لغتهم، الذين كانوا يعرفونهم ويقفون على الخير في أحوالهم، ومع هذا كله لم يكن لهم إلا البلاغ المبين، فما لنا بعدهم إلا ما كان لهم، وليس مظهرٌ تتجلّى فيه روعة الاعتدال من أن يكون غاية ما تطلبه من غيرك أن يسمح لك بالبلاغ ويأذن لك به، ولا تتجاوز هذا في شيء معه، وتُبادله بالعطاء ما كان منحه لك وأتاح أمامك.

والاعتدال دعوة إنسانية، تُوجبها عليك محبتك أن يعرف الناس ما عندك، ويروا ما بين يديك، ولن تنصر ما لديك في عالم اليوم بخير من الاعتدال، فبه تقرُب من البشر، وتدنو منهم، وقد نُسب إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام قوله:" لا خيرَ في صحبة مَنْ لا يرى لك مثلَ الذي ترى له"، ومتى سرنا في هذه الحياة بغير الاعتدال يترك الآخرون صحبتنا، ويبحثوا عن غيرنا، وسنضطر مع هذا أنّ نقبع في ديارنا، ونظل فيها وحدنا، وذاك ما رام ولي العهد حفظه الله معالجته والبحثَ عن طِبّه.




http://www.alriyadh.com/1883430]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]