من المهم العمل على إنشاء منهج موحّد للتعامل مع القضايا الفقهية الاجتهادية، حتى لا نقع في ضد المشكلة التي أردنا التخلص منها، وهي الفوضى الفكرية، فالجمود والفوضى رذيلتان متقابلتان، وبينهما فضيلة الاعتدال..
ذُكِرَ في سيرة أبي يوسف ابن تاشفين أنه قال لواحد من كبار فقهائه: هذه الآراء المتشعبة في الفقه حتى تصل في المسألة الواحدة إلى سبعة أقوال، كيف العمل معها؟! فوضّح له الفقيه الأمر وحاول إقناعه على طريقة الفقهاء الجدلية التي لا تناسب رجل الدولة الذي يريد اللغة العملية، خصوصا إذا كان بصدد مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية لا بد لها من لغة قاطعة وحلول جذرية، فما كان من ابن تاشفين إلا أن قال له: يا فلان! إنه ليس إلا هذا (وأشار إلى القرآن) وهذا (وأشار إلى كتاب من كتب الحديث) أو هذا (وأشار إلى السيف، رامزا إلى سياسة الحزم). وهكذا سار ابن تاشفين على طريقته التي وجدها سياسة مناسبة للتعامل الشرعي مع الواقع المتعقد من حوله، فالرجل كان بصدد مشكلات وصلت إلى مستوى الأزمة، والمؤسسة الفقهية والقضائية كانت محملة بعبء التقاليد الجدلية والرسوم المذهبية المتشعبة الفروع، فلم تستطع التجاوب مع سياسة الرجل الجديدة، فما كان منه إلا أن حسم الأمر بالثورة على هذه التقاليد المذهبية، ومنَع الانشغال بالفروع على الطريقة المذهبية المتوارثة، واعتماد الكتاب والسنة على الطريقة الظاهرية، ولتكون حكومته فعّالة الأداء حرص على توحيد المقاصد والتوجّه، فاختار له رجالا يتفقون معه في نهجه، وكان منهم ابن مضاء القاضي النحوي الذي عمّم هذا التوجه الظاهري على النحو واللغة فألف كتابه الشهير "الردّ على النحاة" مُبطلا فيه مناهج النحاة من قياس وتعليل وجدليات.
قد يخالف المؤرخ الفكري الذي يقف الآن على نقطة تاريخية معاصرة ما اتخذه ابن تاشفين في تلك المرحلة من منهج لمواجهة المشكلات السياسية والاجتماعية الجديدة آنذاك؛ قد يخالفه من حيث النظر الفكري المنطقي المحض، ولكنه حين ينظر إلى الموضوع من حيث السياسة والمصلحة الآنية فقد يجد فيه حلا مقبولا، بل قد يراه ناجعا، والسياسة هي فن الممكن كما يقال.
خطرت ببالي هذه الحادثة التاريخية وأنا أستمع وأستمتع بحديث سمو ولي العهد محمد بن سلمان بمناسبة مرور خمس سنوات على الرؤية، حين صرح بأن القرآن والسنة هما مصدر التشريع والدستور، وأن الدولة لن تلتزم مذهبا معينا ولا اجتهادا معينا، بل الاجتهاد مفتوح للمختصين، وأن الأحاديث ليست على درجة واحدة في المنزلة والحجة، ومن الواضح جدا أن ولي العهد قد حزم أمره وفرغ من تحديد التصور الشرعي الذي ينبغي أن تملكه الدولة للمرحلة الجديدة، ذلك التصور الذي يتخفف فيه وعيُها ومؤسساتها الشرعية من فائض فكري وجدلي كبير لا حاجة إليه، ولا يناسب المرحلة، بل لو بقي معمولا به فسيعيق حركة المجتمع ونشاط الدولة، وهو ما تعمل الرؤية على منع حدوثه.
لكن من المهم العمل على إنشاء منهج موحّد للتعامل مع القضايا الفقهية الاجتهادية، حتى لا نقع في ضد المشكلة التي أردنا التخلص منها، وهي الفوضى الفكرية، فالجمود والفوضى رذيلتان متقابلتان، وبينهما فضيلة الاعتدال. لا بد من منهج تتوفر فيه السهولة والوضوح والعملية، محقِّقًا في كل مرة مقصدا من مقاصد الشريعة. والثوابت الشرعية كما هو معلوم قليلة جدا مقارنة بالمسكوت عنه الذي هو الميدان الأهم للسياسة الشرعية، ومطارحة الموازنات بين المصالح والمفاسد، وهو معترك العقول، والمجال الأعظم لتطوير السياسات وتنمية الدول والمجتمعات.
http://www.alriyadh.com/1884015]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]