يغالط نفسه من يدعي التدين والغيرة على الحق، ويتهاون بالجماعة؛ فالجماعة فريضة شرعية اجتمعت فيها أسباب كثيرة تجعل المسلمَ حريصاً عليها
من تأمل حكمة الله البالغة في إنزال آدم إلى الأرض واستعمار بنيه فيها، وما أودع في طبائعهم من تباين القناعات، وتنوع الرغبات، واختلاف القدرات والإمكانات، من تأمل كل هذا علم أن الحاضنة الجماعية أمر ضروري لا حاجة هامشية، وأن لا غنى للمجتمعات البشرية من سلطة وازعةٍ ينتظم بها الشمل، وتسير بها الأمور على جادّةِ النظام، وأنه لا يحتمي الضعيف من القوي ولا ينكفُّ القويَّانِ عن الصراع المميت إلا بواسطة ذي ولاية عامة تسري على الجميع، ينصف كل طرف من الآخر، ويحتمي به هذا من غوائل ذاك، وينظر للجميع فيما يحقق المصالح العامة، ويدرأ المفاسد فيقرره، وهذا أمر مرتكز في كل فطرة سليمة، بل إن بعض الكائنات غير البشرية قد ألهمت هذا فلا تخلو حياتها من تنظيم وتنسيق، ولا يشنَأُ الجماعةَ والنظامَ إلا محجوب الرؤية بأغاليطَ وقناعاتٍ مُوغِلةٍ في السذاجة، ولي مع أغاليط شانئ الجماعة وقفات:
أولاً: يغالط نفسه من يدعي التدين والغيرة على الحق، ويتهاون بالجماعة؛ فالجماعة فريضة شرعية اجتمعت فيها أسباب كثيرة تجعل المسلمَ حريصاً عليها، منها: توكيد الشرع على وجوبها كما تنص عليه الأدلة الموجبة للزومها ووجوب السمع والطاعة لمن ولي أمرها، كحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» أخرجه البخاري، وأحاديث الوعيد الشديد لمن فارق الجماعة كحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ، وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، لَا يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي بِذِي عَهْدِهَا، فَلَيْسَ مِنِّي»، أخرجه مسلم؛ ولهذا حرص السلف الصالح على رواية أحاديث الجماعةِ، وضمنوا مختصراتهم العقدية التأكيدَ على أهميتها والتنفير من الفرقة، كقول الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: (ونرى الجماعة حقّاً وصواباً والفرقةَ زيغاً وعذاباً)، فالتزام الجماعة ليس مجرد نافلة يتطوع بها من شاء، بل هو نقطة التمايز بين الاستنان والابتداع.
ثانياً: تتضاعف مغالطة النفس ويتفاقم الوهم عند من يربط المصلحة بتوجهه وقناعته، فإذا وافق الأمر قناعته رآه مصلحة، وإن خالفها رآه مفسدة، وهذا خطأ فادح ودعوى عريضة، فإذا انضم إلى ذلك تجنٍّ آخر وهو بناؤه على تلك القناعة الزائفة قرارَ التنصل من مستلزمات الجماعة والتهاون بها أحاط به الباطل من كل جانب، ودار في حلقة مفرغة من التيه غير المتناهي، والعقلاء في عافية من ذلك التصور السطحي؛ فإن موازين المصالح والمفاسد أدق من أن يدعي أحد من عامةِ الناس أنها على حسب ما يراه وحده، وقد علمنا أن من الفروض الكفائية على الأمة مبايعة سلطان يتولى أمرهم، وينظر لهم فيما فيه صلاحهم، ويجنبهم أنواع المفاسد، ويستعين على ذلك بسائر أعوانه من مستشارين ووزراء ومنفذين، فلا يسوغ أن تعارض قرارات ولي الأمر ومن ينيبه بآراء آحاد الناس ويشوش بها عليها.
ثالثاً: من الغلط الشنيع أن يستثقل الإنسان الالتزام بالضوابط والقيود المتمثلة في النظام، ويتخيل أنها عبء على ظهره، ويتمنى أن يزاح ذلك العبء عن كاهله، فهذا عمى معنوي، ومن يبتلى به فهو بمثابة عامل يكسب قوته بوظيفته، فيتصور أن الوظيفة ونظامها وقيودها عبء ينبغي أن يُزال، ويتمنى أن تزول عنه تلك النعمة فيصير شريداً لا يأمره مدير ولا ينهاه، ولا يخضع للائحة منظمة ولا غيرها، فهو يبيع كرامته؛ ليكسب التسيُّبَ، لكن هذا الموظف السَّيءُ القرار والمضروب به المثل أحسن بكثير من مستثقل النظام العام الساعي للتخلص من قيوده وأنظمته، فهذا ليس مضحياً بمصلحته فحسب، بل هو مرتكب لجرم كبير، ومهدد للمصالح العامة للأمة، ففساده متعدٍّ خطير، وعلاوة على ذلك فهو مغالط لنفسه؛ لأن بديل الجماعة ليس التحرر والتخفف من الأعباء، بل بديلها –كفى الله المسلمين شره- هو أن يسود الهرج والمرج الذي لا تخفيف فيه ولا حرية، وتعم الفوضى التي يتسلط فيها كل ذي قوة على من دونه، فبعض الناس يكفرون نعمةَ الجماعة والنظام، ويسعون في الأرض فساداً فيتسع الخرق، وينفلت زمام الأمور، ويصبح ذلك الساعي تحت وطأة زعيم عصابة أو جماعة أرعنَ جافٍ يسومه الخسفَ، ويذيقه أنواع النكال، ولا يحقق له مصلحة، ولا يدفع عنه مفسدة، وهذا مصداق قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ).
http://www.alriyadh.com/1929330]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]