المجتمع هو المنظم الأول ولكنه يبدأ بالفرد وينتهي بالمجتمع في دائرة مغلقة تسودها أفعال الأفراد الذين يتحولون إلى مجتمعات، وبذلك تصطبغ المجتمعات بسماتهم وأفعالهم يدونها تاريخ علم الاجتماع دون هوادة فتصبح وسماً في جبين التاريخ صلحت أم طلحت..
لقد كانت فرنسا تعج بالمفكرين وبقادة الفلاسفة العظام إبان عصر النهضة، وبشكل يعكس كل ذلك الكبت والاضطراب الفكري للخروج إلى النور من ظلمات العصور الوسطى، ومن تلك الإعدامات المتوالية لكل من هز رأسه بفكرة ما!
ولا يتسع هذا المقال لتناول - حتى ولو نبذة - عن واحد منهم لكثرة عددهم ولانتشار أفكارهم ولسعة رقعة المتأثرين بهم حتى سمى ذلك العصر بعصر التنوير.
ولعلنا نحيا اليوم أمثال حِقَبهم وتقلباتها آنذاك؛ فقد شغلتهم إشكالية التقليد وقد برز العالم الكبير -واسع الرقعة والانتشار- جبريل تارد (1843-1904) وكذلك إيميل دوركيم، هذان العالمان لكل منهما وجهة نظر مضادة -بالرغم من دفاع أحدهما عن جوهر فكر الآخر- في دراسة الحياة العقلية للإنسان داخل نطاق المجتمع. وكان تارد سليل عائلة علمية ودينية، فكان أحد أفراد أسرته من رجال الدين لكنه مهتم بعلوم الفلك حتى إنه كان يفخر بأن جاليليو قد أهداه منظاراً فلكياً بالإضافة أن عائلته كانت من ذوي المجالس النيابية، وهذا ما أكسب تارد مؤيدين كثر، كما أنه كان يميل للعزلة وللتأمل خشية على شعلته المتوقدة فكتب كتاب قوانين التقليد وهو كتاب فلسفي عميق الدراسة في هذا الشأن، والذي لم يظهر إلا في عام 1890م.
وكان الفارق بين تارد ودوركيم أن الأول (تارد) يرى أن تفسير الظواهر الاجتماعية يرجع إلى الفرد وإلى الحالات السيكولوجية أو التفاعل الذي ينشأ بين عقلين أو أكثر؛ أما الثاني (دروكيم) فيفسر أن هذه الظواهر تنشأ عن طريق المجتمع والصورات الجمعية أو ما يسميه أحياناً "بالضمير الجمعي".
إن تارد في نظريته هذه يرى أن تفسير الظواهر الاجتماعية يرجع للفرد، بل يؤكد على مبدأه الفلسفي الذي اقتنع به ودافع عنه.
هذا المبدأ الفلسفي يتلخص في "أن وراء كل حقيقة عناصر يمكن تشبيهها، ومن بعض النواحي بالذات أو (الموناد) عند "ليبنتز" لكنها تختلف عنها في قدرتها على التحول بفعل التأثيرات المتبادلة بينها. ومع هذه العناصر واختلافها إلا أنها بتفاعلها تستطيع أن تكون وحدة منسجمة أو مجتمعاً يتميز كل فرد فيه بشخصيته" كما أنه كان في مسألة تكرار التنوع يرى أن العلم قد خرج من الفن وإليه يعود ولذلك اشتغل بالفلسفة من أجل الفن وهنا تبرز قيمة الفن في ضبط السلوك الاجتماعي!
ومن هنا يقول الدكتور السيد محمد بدوي في هذا الصدد: "هذه النظرة النفسية الاجتماعية من حيث أصولها، أدت بتارد إلى تكوين علم للمجتمعات، يرتكز على دراسة النفس الإنسانية، وعلم للنفس الإنسانية يربط مصير الفرد بالحياة الاجتماعية" ومن هناك تارد يعمل على تعادلية (الإنسان الفرد ودراسة الإنسان الاجتماعي) والتي يربط بينهما بالفرد الواحد وكلاهما يرتبط بالفن!
ومما جعلنا نناقش هذه القضية ونعود إلى هؤلاء العلماء وإلى نظرياتهم هو ذلك التقليد الرائج في سلوك المجتمعات العربية بين عنف وهلع وبين تقليد أعمى لنغم أو موسيقى أو حتى تقاليد قد تكون غريبة على التقاليد (الضمير الجمعي)، والفرد مما سبب ذلك الصراع العنيف بين هؤلاء وهؤلاء، بين إنكار وقبول؛ دون وجود علماء معاصرين أو حتى دراسة نظريات القدماء بدراسات علمية تنقذ هذه المجتمعات من هذه الانقسامات حول ما يسمى علمياً بـ (صراع الرغبات)؛ لمعالجة هذه الفجوة من صراع الرغبات حتى بات القتل والانتحار والخطف لتجارة الأعضاء وغير ذلك من السلوك البشري الغريب وهو ما سماه تارد بـ (سلوك الجريمة).
يقول تارد في هذا الشأن: "هل لنا أن نقول إنه كلما تقدم شعب في مدارج الحضارة أصبحت طريقته في التقليد مصطبغة أكثر فأكثر بطابع الإرادة والشعور والتفكير؟ هنا أيضاً أعتقد أن الأمر على عكس ذلك: فكما أن الفرد في تكوينه يبدأ بأفعال إرادية في نطاق الشعور، وينتهي بأفعال لا إرادية تخضع اللا شعور بتأثر العادات التي تأصلت في نفسه، فكذلك بالنسبة للشعوب كل ما تقوله وما تقوم به بتأثير التقاليد والعادات قد يبدأ عن طريق الاقتباس أو التكوين الصعب الذي كان يحتاج كثيراً من الجهد والبذل في تقبله".
لقد جعل تارد وظائف الحس العليا أكثر قابلية للانتقال عن طريق التقليد، كما يرى أن وظائف الحس الدنيا أقل تأثيراً، وضرب مثالاً بأن تقليد إنسان يسمع أو ينظر يميل بكثير من تقليد إنسان يشم وردة.
وبذلك نجد أن تقليد العنف والقسوة والتنمر ومعاداة الآخر هي الأكثر تقليداً بحسب نظرية تارد لأنها أفعال من أفعال الحس العليا، وبذلك حمَّل هذا العالم المجتمع مسؤولية العنف المجتمعي حيث يرى أن الفرد تقليد المجتمع.
وفي يومنا هذا نجد أن كل هذا التقليد كان مسؤولاً عنه المجتمع إذا ما سلمنا جميعاً بهذه النظرية، فالمجتمع هو المنظم الأول ولكنه يبدأ بالفرد وينتهي بالمجتمع في دائرة مغلقة تسودها أفعال الأفراد الذين يتحولون إلى مجتمعات، وبذلك تصطبغ المجتمعات بسماتهم وأفعالهم يدونها تاريخ علم الاجتماع دون هوادة فتصبح وسماً في جبين التاريخ صلحت أم طلحت.
إن خير مربٍ كانوا أجدادنا الأوائل، فهم من صنعوا فلسفة (الضبط الاجتماعي) والتي يُنبذ فيها الفرد من المجتمع نتاج فعلة خارجة عن النسيج الاجماعي، وما أن خفتت جذوة هذا الضبط، حتى سادة الفوضى الاجتماعية التي يستمرئها الجمهور وحينها يكون هو المنوط بأفعال الأفراد ومسؤولاً عنها!
http://www.alriyadh.com/1929513]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]