ما يتوصل له المحققون من أسبابٍ ونتائجَ لهذه الجرائم سواء كانت من إقرارات الجناة، أو من أدلةٍ تمَّ الحصول عليها من موقع الجريمة، أو من خلال استنتاجات خلال مجريات التحقيق، هي في الحقيقة كنزٌ ثمينٌ، وجهدٌ عظيمٌ لا ينبغي أن يكون حبيس جهات التحقيق، أو جلسات القضاء، أو جهات التنفيذ، بل لابد من إنشاء مركزٍ مختصٍ يتولى دراسة تلك الأسباب، والثغرات..
يتعرض الناس في هذه الحياة لأنواعٍ من طوارق الليل والنهار، منها ما تتسبب فيه الأخطاء البشرية التي لا يخلو البشر من الوقوع فيها -على تفاوتهم في الاحتياط لها والتسبب في اجتنابها-، ومنها ما يجنيه بعض الناس على بعض، ويشمل هذا القسم جميع الأضرار التي يُوقعها الإنسان على غيره، وأخطرها ما يمسُّ إحدى الضروريات الخمس التي تتمثل في: الدين والنفس والعقل والمال والعرض (النسل)، وهذه الجنايات منها ما يُوجهه الفاعل إلى عموم المجتمع كجرائم الإرهاب بشقيها الفكري والفعلي، ومنها ما يُستهدفُ فيه الأفراد والجماعات بعينه كجرائم السرقة والقتل، ولا يقف نظام المجتمع الذي وقعت فيه هذه الأمور مكتوف اليدين تجاهها، بل يتعامل معها وفق ما يقتضيه النظام تجاه كل فعل، وتُعالج ُكل قضيةٍ بعنايةٍ فائقةٍ وتشخيصٍ دقيقٍ، ولا شك أن الجهات النظامية التي تُعالجُ المشكلات الأمنية يتكون عندها تصور دقيق لدوافع الجنايات، وطرق تنفيذها والثغرات التي يلج منها الجناة، وأسباب الحوادث ومكامن الإهمال التي أدت إليها إلى غير ذلك من خبراتٍ هائلةٍ تنطوي في ملفات التحقيق، ومن الأهمية بمكان تسخير هذه الخبرات لمواجهة الجرائم، والتقليل من الحوادث من خلال دراستها وتوعية المجتمع بخلاصتها، ولي مع ذلك وقفات:
أولاً: أن مجريات التحقيق في هذه الوقائع من اللازم أن تكشف أسباب تلك الجرائم سواء ما يتعلق بالجريمة ذاتها، أو بمرتكبها، والتوعية بأسباب الأضرار أمرٌ مشروعٌ، ومن سنن الرسل عليهم السلام تحذير أقوامهم من الشرور، فعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ»، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث الصحابة عن الخوارج وحذرهم منهم، وصفهم بأوصافٍ دقيقةٍ، تنطبق عليهم أبداً فقال: "يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ"، فمن الأهمية بمكان ذكر سمات المجرمين والتحذير منهم، بل إن من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بأمته تشخيصه لأوصاف بعض أعيان المفسدين كالدجال وكالخارجيِّ الذي ذَكَرَ للصحابة أنه علامةٌ للخوارج، فقال: (آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْقَالَ: ثَدْيَيْهِ، مِثْلُ ثَدْيِ المَرْأَةِ، أَوْقَالَ: مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ).
الثانية: أن مجريات التحقيق في هذه الوقائع من اللازم أن يتضح فيها تلك الثغرات التي أسهمت في وقوع الجريمة، سواء ما يتعلق بالمجتمع، أو بالضحية، وتنبيه المجتمع على مثل تلك الثغرات كفيلٌ بتجنُّبِ أغلبية الناس لها، فالغالبية العظمى من الناس تستفيد من التنبيهات الأمنية بشكلٍ فعَّال، وقد لمسنا فائدة هذه التنبيهات في مستوى الأمان الذي يكتنف ببعض الخدمات المهمة التي تُكرِّرُ منصاتها على مرأى ومسمع المستفيد التحذيرَ من الثغرات الأمنية الأكثر احتمالاً، كتنبيه البنوك عملاءها على ثغرةٍ مهمةٍ وهي الاتصال الذي يطلب فيه المتصل كلمة سر العميل مثلاً، ويُوهمه أنه موظف البنك، فبكثرة التحذير من هذه الثغرة لم تكن تلك الحيلة لتنطلي على أغلب الناس، ولا شك أن البنك لو اكتشف هذه الثغرة ولم يُنوِّه بها لتوالت الأضرار على الناس، ففي الناس ذوو غفلاتٍ إن نُبِّهوا انتبهوا، وإن ترُكوا كانوا لقمةً سائغةً للمحتالين، هذا ما يتعلق بالجرائم، أما الحوادث الناجمة عن الأخطاء البشرية فلا غنى عن إشاعة أسبابها والتثقيف فيها، فكثيرٌ من الناس إنما يقع فيها نتيجةً لضآلةِ معرفته بما يجب عليه من التصوُّن والاحتياط، فإذا عُلِّم تعلَّم، ومن الناس من يُوقعُهُ فيها الإهمال وعدم المبالاة ومن هؤلاء من إذا تكرر عليه التنبيه أثر فيه إيجاباً.
ثالثاً: أن ما يتوصل له المحققون من أسبابٍ ونتائجَ لهذه الجرائم سواء كانت من إقرارات الجناة، أو من أدلةٍ تمَّ الحصول عليها من موقع الجريمة، أو من خلال استنتاجات خلال مجريات التحقيق، هي في الحقيقة كنزٌ ثمينٌ، وجهدٌ عظيمٌ لا ينبغي أن يكون حبيس جهات التحقيق، أو جلسات القضاء، أو جهات التنفيذ، بل لابد من إنشاء مركزٍ مختصٍ يتولى دراسة تلك الأسباب، والثغرات، والعمل على تقصِّي تلك الأسباب والثغرات، ومخاطبة الجهات المختصة كُلٌّ فيما يخصه، للعمل على مواجهة ذلك، ووضع السبل المانعة من وقوعه وتكراره، وتوعية المجتمع للتنبه له ومحاربته، وتزويد كل مؤسسة تتعامل مع فئةٍ خاصةٍ من المجتمع بالمخاطر التي تختص بتلك الفئة، وطرق تجنبها، والثغرات التي يمكن أن يدخل من خلالها الجناة.




http://www.alriyadh.com/1934304]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]