مما لا شك فيه، أن في تقلبات عصرنا هذا من حروب وأزمات وأوبئة، خاصة ما نلاحظه على السلوك المجتمعي من عنف وتنمر وكل ما تنكره القيم السائدة والمتوارثة، تقابلها حركة فنية ناهضة تطالب بالرقي والتنوير، كل ذلك سوف ينتج للعالم كله حركات فنية باتت تباشيرها ظاهرة للعيان سواء على مستوى الأدب أو حتى الموسيقى والشعر وحتى المسرح؛ قد يستنكرها البعض وقد يستحسنها البعض الآخر..
كلما ظهر نوع من أنواع الفنون ظهرت معه محاولات لتعريفه اصطلاحياً، فمن المتعارف عليه دائماً هو تعريف المصطلح، ذلك لأن هذا التعريف ضرورة قصوى كدليل للنقاد، والذي يقودهم في نهاية المطاف إلى ما يسمى بالعيار النقدي للقياس عليه فنياً. ولكنها كانت تظهر اختلافات ومشكلات في بداية تلك التعريفات مما يقود النقاد إلى الارتباك في بداية الأمر، فيقول الدكتور ثروت عكاشة -رحمه الله- وهو الذي أثرى المكتبة العربية بأعماله وعلمه: "ظهر الكثير من المصطلحات الفنية التي يستخدمها مؤرخو الفن أول ما ظهرت ضمن ألفاظ القدح والاستهجان، فكان لفظ "القوطي" على سبيل المثال مرادفاً لمعنى المخرب أو الهمجي المدمر الذي لا يعير مواطن الجمال التفاتاً". وفي لفظ "الباروك" الذي يَرِدُ في قاموس أكسفورد للجيب حتى طبعة 1934م دلالة على كل ما شأنه غريب، ومثله كلمة "انطباعي" التي صاغها أحد النقاد في معرض السخرية والاستهزاء، ولكن مع مرور الوقت واستتباب أواصر هذه الفنون أصبحنا نتداولها طواعية بالمعنى الوضعي والاسترشادي للإشارة إلى خصائص هذا الفن أو ذاك.
ويعد المصطلح حاكماً على أقلام وفنون المبدعين كنوع من المعيار القياسي والذي لا غنى عنه في مجمل كل ما يرد إلينا من فنون وأقلام، ولهذا كان ظهور المصطلح مصاحباً لظهور فنون جديدة، وفي أغلب الظن أن كل فن جديد قد لا يرضي ما اعتاد عليه متذوقو عصره، ولذلك كانت تظهر المصطلحات استهجانية في بداية الأمر؛ لأن الذائقة دائماً معتادة على نوع مألوف، رافضة أي ظهور غريب عنها، ولذلك يؤرخ لنا الدكتور عكاشة هذا النوع من المسميات الاستهجانية في بداية الذائقة الرادفة والمستحدثة!
ومما لا شك فيه أن الفن وتقلبات مدارسه نضح بما يحياه العصر أو تعيشه الظروف الحياتية بمستوياتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وهذا أمر متعارف عليه، فكلما تقلبت هذه الظروف بين الرضا والرفض، والسلم والحرب وغير ذلك كلما نتحت الساحة الفنية بنتح جديد، هذا النتح لا يرضي الذائقة المعتادة على واقع فني تعتاده النفس، ولذلك تظهر هذه المصطلحات بمعانيها التي ذكرها لنا عكاشة.

وعلى سبيل المثال: جماعة من الفنانين بألمانيا (جماعة الجسر)، دعت في أول معرض لها كل أطياف المجتمع، وعند افتتاح المعرض فوجئ الحاضرون بأكوام من القمامة كتعبير احتجاجي على هذا العالم والحروب المدمرة، حتى أن لوحة الموناليزا قد رسمت بشارب في شكل مشوه احتجاجاً رافضاً لهذا العالم وهذه الحروب التي خلفت وراءها الفقر والموت والدمار. وكذلك ظهور المدرسة الدادية أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي لم تتخذ من اسمها الدادية -يعني الحصان الخشبي- أي صلة أو ترابط بين المسمى وبين الحركة واتجاهها الذي اتخذته، وإنما كانت إمعاناً في التمرد على كل صنوف الجمال الذي يرون أن الحرب مدمرة له. فالدادية هي حركة احتجاجية كما أسلفنا، وظهرت أثناء الحرب العالمية الأولى عام 1915م في مدينة زيورخ بألمانيا كرد فعل على الحرب التي استمرت إلى عام 1924م، فهي حركة تمردية على القيم والقواعد والقوانين الفنية القديمة والقواعد السائدة أنذاك. وكذلك ظهور حركة العاصفة والإجهاد أو العاصفة والاندفاع بالألمانية "Sturm und Drang"، وهي حركة أدبية ألمانية رومانتيكية، ازدهرت في أواخر القرن الثامن عشر (نحو 1770 - 1790) كرد فعل لعقلانية حركة التنوير، "تميزت آثار أركانها بعاطفية متقدة، وإعظام للطبيعة، وتصوير لثورة الفرد على المجتمع. من أبرز ممثليها غوته وشيلر في صدر شبابيهما، وجوهان غوتفريد فون هيردر. استمدوا وحيهم واسمهم من أعمال روسو، وليسنج. أصل الاسم عنوان مسرحية بقلم فريدريتش مكسيميليان فون كلينغر: «الفوضى أو العاصفة والإجهاد» 1776م".
كل هذه الإفرازات الفنية ليست سوى نتح فكري لتقلبات الحقبة ذاتها، وإفراز فكري بتنا الآن نعظم من شأنه ونتدارسه رغم استهجانه وإنكاره جمالياً وفكرياً وفنياً حينها.
ومما لا شك فيه، أن في تقلبات عصرنا هذا من حروب وأزمات وأوبئة، خاصة ما نلاحظه على السلوك المجتمعي من عنف وتنمر وكل ما تنكره القيم السائدة والمتوارثة، تقابلها حركة فنية ناهضة تطالب بالرقي والتنوير، كل ذلك سوف ينتج للعالم كله حركات فنية باتت تباشيرها ظاهرة للعيان سواء على مستوى الأدب أو حتى الموسيقى والشعر وحتى المسرح؛ قد يستنكرها البعض وقد يستحسنها البعض الآخر، إلا أنه نتح عصري سيدونه فيما بعد تاريخ الفن كحركات فنية تدون عصرها وتؤرخه نابذة له أو متمردة عليه أو مستحسنة له، ذلك لأننا وبلا شك نعيش لحظة فارقة في عمر الزمن كتلك اللحظات سالفة الذكر.




http://www.alriyadh.com/1965623]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]