إذا تأملنا هذا المفصل التاريخي وما عصف بهذه الفترة من طفح فكري عالمي منذ أن خرجت لنا نظرية العولمة بما لها وما عليها، فسنجد أنفسنا نموج في هذا التقلب، منا الرافضون والمستنكرون والمتمسكون بالماضي، ومنا من يحاول التكيف بين هذا وذاك، ومنا من انخرط بلا هوادة ولا تردد؛ فإلى أي حد تتبلور الشخصية العربية بما يُخرج للعالم شخصية عربية جديدة تبهره -كما أبهرته من قبل- بكل متطلباته؟! لكنها وبلا شوفونية أو عصبية أو عنصرية، لتكن عربية تحتفظ ببريقها الذي منحها لها التاريخ والعمق الحضاري.
ولكي نتأمل تقلبات الشخصية في وقتنا الحاضر حتماً سنتساءل: ما الذي حدث للشخصية العربية التي باتت محط تساؤلات ومقت وتبرم ومناداة بما لا تستطيع، حتى النظرة الغربية باتت شاخصة متفحصة تنهل من أخبارها ومن سلوكها مادة إخبارية تقتات عليها؟! لماذا لا يقف كل منا هنيهة، كل مع ذاته، يتأملها ويدع كل ما يسمعه ويراه جانباً لبضع دقائق في حالة من استبطان الذات، ويتساءل عما يريد، وما هو آيل إليه، ومن معه، ومن ضده، وما هدفه في آخر المطاف.
مجرد تساؤلات استبطانية ذاتية خالصة وخاصة، ومن دون أي مؤثرات، حتماً سيفيق على هوة سحيقة، قدمه على حافتها قد تنزلق أو تكاد. إنها لم تكن نظرة تشاؤمية أو استنكارية منا، ولكنها دعوة للحظة صدق مع الذات ودعوة إلى التوازن بين عالمين؛ عالم أصبح الواحد منا فرداً فيه كما نادت به العولمة، وعالم عربي له تكوين شخصية متفردة، لها قوانينها وأحكامها وقوانينها! وهو ما خلق هذه الأزمة في الشخصية التي أصبح سلوكها محط اعتراضات في محيطها الاجتماعي إن جاز التعبير، وهل النزعة الراديكالية المنصرمة هي سبب هذا الفيض من التخبط والضجيج، أم هي غيرة وتمسك بكل مكونات الشخصية العربية التي تكونت منها عبر تراكمات عقود وتاريخ؟ وإذا كان ذاك كذلك، فاللوم ليس على تقلبات العالم أو على نظرية العولمة أو حتى على التقدم العلمي والتكنولوجي الذي طاف بالعمق الإنساني ووضعه على قارعة الطريق، إنما كان لعدم التدرج المعرفي، والذي أغفلناه عقوداً من الزمان، مما ينتج لنا تلك الصدمة الثقافية أو الحضارية، فهي -كمصطلح اجتماعي نفسي- الصعوبة التي يعاني منها الفرد من أجل التكيف مع ثقافة جديدة مختلفة إلى حد كبير عن ثقافته الأصلية، فتتمثل تلك الصعوبات بالشعور بعدم اليقين والارتباك والقلق الناتج عن اختلاف المعايير الاجتماعية اختلافاً كبيراً بين البلدان والمجتمعات المختلفة، كما يمكن أن تنشأ من جهل الشخص بالعادات المحلية واللغة والقواعد والسلوك ضمن مجتمعه الجديد.
إن انبهار الفرد بالمجتمع العالمي الذي دلف من نافذته إليه، هو ما جعل هذا التقلب المجتمعي العربي على محك التساؤلات، ولذلك فلا لوم على جيل وجد هذه البلّورة البراقة بحجم الكرة الأرضية! لأن هناك العديد من المآخذ التي أوقعت الشخصية في هذا المأزق، وأهمها أساليب التعلم والتسويق للحضارة العربية وإبراز مكانتها ليس للآخر وإنما لنا نحن ولكل الأجيال الحديثة والمقبلة، ذلك لأن الشخصية إذا امتلأت بتاريخها وحضارتها وأعرافها وتقاليدها في صورة تفخر وتتميز بها فلا يمكن أن تفرغ من محتواها، كذلك لا يمكن اختراقها عن طريق الانبهار والبهجة المؤقتة، لأنه مع تلاشي البهجة الأولية الناتجة عن الوجود في بيئة جديدة يبدأ الشخص بالانتباه إلى الفروقات بين الثقافتين القديمة والجديدة بشكل جلي، وكذلك درجة استمتاعه بالثقافة الجديدة، ويتولد عنده شعور بالقلق والإحباط والغضب وغالباً ما يكون ذلك نتيجة عدم قدرته على التواصل مع محيطه بفاعلية، بسبب الفوارق اللغوية واختلاف المظهر والسلوك الذي تعلمه ضمن ثقافة تختلف ومجتمعه الجديد، ليصبح الاكتئاب والحنين والتوق إلى العادات والتقاليد المألوفة أكثر بروزاً، وتعتبر هذه المرحلة أصعب مراحل الصدمة الثقافية كما ذكر أحد الباحثين.
وفي موسوعتي (الجزيرة العربية الهوية المكان والإنسان) تشابك العرق والنسب حتى خرج الكتاب أو قل البحث بأن الشخصية العربية عامة من المحيط إلى الخليج، وكنت حينها أبحث عن الشخصية العربية منذ تكوينها حتى القرن الثامن عشر، وبالبحث عن الجذور، لتحويلها من المحسوس إلى الملموس، فكانت الصورة النهائية للشخصية العربية بسماتها وملامحها -كهوية عربية- سبيكة نادرة تتوالد عبر آلاف السنين مبهرة راسخة متفردة بخصائصها وسماتها التي نتح بها البحث، والتي يجب أن تتبلور بصورتها الحقة مع العالم الجديد في معطى ثقافي راسخ، والتعليم والثقافة والتسويق أيضاً هم المرتكزات الأساسية على هذا المحك الصعب لخلق شخصية عربية جديدة بكل سماتها وخصائصها في العالم الجديد.
ومما لا شك فيه أن المملكة العربية السعودية قد أدركت ذلك وبدأت في مشروعها الثقافي والتعليمي بشكل جيد، وهو ما يضعها في المصاف الأول لمعالجة هذا التغيير وبمعايير ملزمة ونافذة، حرصاً على الهوية والشخصية بكل مقوماتها في ظل عالم جديد.




http://www.alriyadh.com/1967248]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]