سرعان ما ينتقل المجتمع من مرحلة تقريب الأفكار الجديدة إلى الفكر السائد من خلال تحوير تلك الأفكار الواردة وتكييفها لإعطائها صبغة محلية بهدف تقبلها لكنه مع مرور الوقت يتبناها بشكل كامل. يبدو أن هذه العمليات التي تحدث على مستوى الوعي المجتمعي العميق تتمظهر مادياً على شكل منتجات، منها العمارة..
يمكن تصنيف ملامح الحداثة العمرانية في مدينة الرياض بعد 1950م وحتى 1970م إلى اتجاهين رئيسين: أولاهما مرتبط بمبادئ العمارة الحديثة وتشكيلاتها البسيطة المباشرة التي تعتمد على استخدام الخرسانة، حتى وإن كانت تلك العمارة لم توظف الخرسانة كما كان يراها رواد عمارة الحداثة في النصف الأول من القرن العشرين، فأغلب المباني التي بنيت في الرياض كانت معالجة ومطلية من الخارج ولم توظف الخرسانة المكشوفة بشكل واضح، ويمكن أن نعتبر تلك المحاولات بأنها محاولات تجريبية قدمت مادة الخرسانة من الناحية المعمارية لقطاع كبير من سكان الرياض. الاتجاه الآخر يمكن أن نطلق عليه "الاتجاه العاطفي" وهو اتجاه يمكن اعتباره محاولة صريحة ومباشرة لاستعادة الصورة البصرية للعمارة في الحضارة الإسلامية، ويمكن اعتباره الإشارة الأولى التي أكد ظهور بوادر الوعي العميق لحاجة المدينة إلى المحافظة على هويتها البصرية وعدم الانزلاق بشكل كامل نحو الأشكال الحديثة الغريبة عن المدينة ومجتمعها.
كلا الاتجاهين بدأا في وقت واحد تقريباً ويمكن أن نحيل الاتجاه العاطفي إلى قصر الناصرية الثاني بشكل مباشر (بني عام 1957م)، وهو مجمّع ترك أثراً عميقاً على تصور النخب الاجتماعية حول ماهية العمارة. وكما ذكرنا سابقاً فقد كان لمد القومية العربية تأثير بشكل أو بآخر على فكرة "إحياء العمارة العربية"، فكل ما هو عربي كان يمثل مصدراً من مصادر تعزيز الهوية والاختلاف عن الآخر. ومع ذلك لم يحقق هذا الاتجاه انتشاراً واسعاً مقارنة بما حققه اتجاه العمارة الحديثة، إذ يبدو أن الاتجاه العاطفي كان محصوراً بين النخب لتكاليفه الباهظة وحاجته لحرفيين مهرة لم يكن توفيرهم هيناً في ذلك الوقت. يمكن أن نضيف اتجاهاً ثالثاً تطوّر نتيجة لعمليات الدمج والتهجين بين العمارة التاريخية في مدينة الرياض وبين عناصر العمارة الحديثة نتج عنه توجه يمكن أن نطلق عليه "العمارة المهجنة"، وهو اتجاه خاص بالرياض أكثر من غيرها، وتشكلت مبادئه التشكيلية من خلال التجريب المستمر الذي امتد إلى ما بعد تلك المرحلة وحتى اليوم، ويمكن أن نفترض أنه كان إحدى البدايات التي ساهمت في طغيان عمارة "التقليدية الجديدة" في ثمانينات القرن العشرين.
هذه الاتجاهات الثلاثة مجتمعة تطورت لتشكل ظاهرة "عمارة ما قبل دوكسيادس" في مدينة الرياض (1950-1970م) لتجعل من تلك المرحلة بداية العلاقة المباشرة مع عمارة اختلفت كلياً من حيث التكوين ومن حيث أساليب الإنتاج والتنظيم والتشريع عن العمارة التقليدية التي كانت سائدة لعدة قرون. من المتفق عليه أن كل نظام عمراني يفرز العمارة التي تتوافق معه، ومع ذلك لا نستطيع أن نقول إنه كان هناك نظام عمراني واضح في الرياض في تلك الفترة، لذلك يمكن اعتبار عمارة تلك الفترة بأنها "عمارة تجريبية" فقد كانت بمثابة جس نبض لمدى تقبل مجتمع الرياض للوافد الجديد وإلى أي مدى يمكن أن تترك هذه العمارة أثراً على تصور الناس للمدينة. في تلك المرحلة التجريبية كان هناك تصاعد الهوية الفردية، أي أن جزءًا من المجتمع، ونقصد النخب على وجه الخصوص، كانوا في طور الانتقال من الارتباط بالهوية الجمعية إلى تعزيز الهوية الفردية التي لم تكون هوية فردية مكتملة بل كان يتنازعها الكثير من رواسب الهوية الجمعية.
هل تطورت تلك العمارة بمعزل عن المجتمع؟ وماذا يمكن أن نقول عن مصطلح "الرياض الجديدة" الذي ساهم في تشكيل صورة ذهنية معمارية جديدة لدى ساكن الرياض؟ وكيف تطورت التجارب الفردية المعمارية غير الحكومية؟ وماذا نتج عنها؟ ربما نحتاج أن نصل إلى الكيفية التي كان يفكر المعماريون الذي عملوا في الرياض في تلك الفترة، وكيف تحولت تلك العمارة مع الوقت إلى واقع تقبّله مجتمع الرياض وأصبح جزءاً من صورته الذهنية المعمارية الجديدة. من المؤكد أنه حدثت سلسلة من الإزاحات الذهنية التي جعلت من صورة المدينة لدى ساكن الرياض مختلفة عن تلك التي كانت موجود لدى الجيل السابق، وكثير منهم عاش كلا التجربتين، ونتصور هنا أن الاتجاه المهجن، لم يكن ليتطور إلا نتيجة لهذه المعايشة المزدوجة، أي أن كثيراً من أفراد المجتمع كانت لديهم صورة ذهنية معمارية مزدوجة حاولوا التعبير عنها من خلال العمارة التي قاموا ببنائها، خصوصاً على مستوى العمارة السكنية.
يمكن أن نعتبر ملاحظة عالم الاجتماع الأميركي "بارسونز" Parsons مهمة لتفسير كيف تتطور أي صور ذهنية مغايرة للصورة السائدة عندما يتم استيراد الأفكار الجديدة، فهو يرى أن المجتمع يتخذ موقف شبه الرافض للجديد في بداية الأمر لكنه سرعان ما يحاول أن يقرّب هذا الجديد للأفكار السائدة. هذه المرحلة الانتقالية من الرفض إلى بداية التقبل تدخل فيها الكثير من العوامل، سواء السياسية أو الاقتصادية وأهمها التوق إلى التغيير. ويبدو أن مجتمع الرياض كان يتوق للتغير والعيش بطريقة مختلفة عن السابق خصوصاً بعد أن انفتح على العالم. يرى "بارسونز" أنه سرعان ما ينتقل المجتمع من مرحلة تقريب الأفكار الجديدة إلى الفكر السائد من خلال تحوير تلك الأفكار الواردة وتكييفها لإعطائها صبغة محلية بهدف تقبلها لكنه مع مرور الوقت يتبناها بشكل كامل. يبدو أن هذه العمليات التي تحدث على مستوى الوعي المجتمعي العميق تتمظهر مادياً على شكل منتجات، منها العمارة، تعبر عن هذه التصادمات في التصوّر الذهني للشكل الذي يصاحب الفكرة الجديدة. يمكن فهم عمارة ما قبل "دوكسيادس" على أنها مجموعة تصادمات داخل الوعي العميق لمجتمع الرياض نتج عنه عمارة لها خصوصيتها البصرية. قد تكون هذه لمحة تحليلية عاجلة لفترة غير عادية في تاريخ الرياض العمراني، ودون شك تحتاج إلى الكثير من التفكيك، ومن الأمثلة التي تبين كيف انتجت الأفكار، وكيف تم تحويلها وتكييفها ومن ثم تقبلها.




http://www.alriyadh.com/2010881]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]