الإشكالية الكبيرة أن كل ماض يحمل بذور استمراره، فيحمل عناصر البقاء فلا يتحلل، كما أن كل حاضر يحمل بداخله بذور فنائه أيضاً بداخله! ويزيد من شدة الصراع ثم يتحول بدوره إلى ماض.. هذه الجدلية التي نطرحها ونعرضها دون الميل لأحد طرفيها، وإنما لنضعها بطرفيها أمامنا لكي تكون الصورة أكثر وضوحاً لكل منا..
صراع بين ماض وحاضر متجسد في صراع أفكار؛ بين فكر حداثي مستحدث، وبين كثير من العادات والمفاهيم القديمة! فالماضي هو دائماً منصرم بحكم الطبيعة الفيزيقية، متحلل بطبعه في نظر البعض، بينما يتجدد في كل يوم وعام وسنة وكل جيل يتطلع إلى آفاق رحبة في نظر البعض الآخر.
والمستقبل حسب هذه الحتمية هو الوليد، وبالتالي فالماضي في رأي البعض​ هو من يتحلل، وفي طريقه تدريجيا نحو الزوال، وعادة ما يحدث رائحة كريهة نتيجة تحلله إذا ما كان فاسداً لهؤلاء الرافضين له، شأنه شأن الجثة التي يجب أن تدفن على الفور في نظر الفورمولوجيين إكراماً لها، فهم يرون في حقيقة الأمر أنه يجب دفنها لكي لا تظهر عورتها وهي تتحلل فتؤذي مشاعرنا! وهذا على المستوى الاول. ولكيلا تصيبنا بأمراض جسدية ونفسية معدية وهذا على المستوى الثاني! إلا أن الطرف الآخر يرى في الماضي مجدا لا ند له ويجب أن يظل حارساً على كل جديد.
ومن هنا كان الماضي دائماً مستميتاً في البقاء والتمسك بعرى الحياة والاستمرار فينا لكي يظل نابضاً بالحياة فلا يتحلل وإنما يتحول إلى بلورات عنقودية صعبة التحلل تأخذ من الحاضر مادة لبقائها ونموها.
وبالتالي الحاضر ينتفخ «كالبالون» فإذا ما ازداد الهواء عن مقداره انفجر، لأنه ينمو بطبيعة الحال فينا، وعلينا بتوسيع مداركنا لكي نستوعبه بخلاياه الماضوية بما لها وما عليها، فهو وعي نامٍ فينا على الدوام، شئنا أم أبينا! لأنه أكثر وعياً وأكثر تحركاً وأكثر تطلعاً للحياة، وليس لدية أي جاهزية للتحلل.
ومن هنا يكون الصراع بين قطبيه هو صراع البقاء فينا، صراع بقائنا نحن كما كنا وكما ما نحن عليه. فالإشكالية الكبيرة أن كل ماض يحمل بذور استمراره، فيحمل عناصر البقاء فلا يتحلل، كما أن كل حاضر يحمل بداخله بذور فنائه أيضا بداخله! ويزيد من شدة الصراع ثم يتحول بدوره إلى ماض.. هذه الجدلية التي نطرحها ونعرضها دون الميل لأحد طرفيها، وإنما لنضعها بطرفيها أمامنا لكي تكون الصورة أكثر وضوحاً لكل منا.
فحينما نجد تياراً تقليدياً أوتقاليدياً يتشبث بأهداب الماضي وجذوره وفروعه وما له وما عليه، نجد تياراً آخر يقف له بالمرصاد على طرف النقيض، كونه يستنكر هذا الإمساك بعرى القديم أو محاولة إحيائه.
لم تكن هذه الثنائية المتضادة بحديثة العهد، بل قديمة قدم تاريخ النقد نفسه، منذ أن انبرى الرومان في تجديد ثقافتهم على رفاة الحضارة الإغريقية، وكيف أن هذه الجدلية أخذت منحًى واسعاً من الفلاسفة حتى وجدنا أن الثقافة الإغريقية قد تسللت حتى تشبعت بها الثقافة الرومانية وعلى رأس منظري هذا الفكر هو الناقد الأمريكي (ت. س. إليوت).
والمقال لا يتسع لعرض تلك الآراء ومناقشتها، إلا أننا أردنا الإشارة إلى تجذر هذا الفكر أو ذاك.
وبطبيعة الحال، فإن كثرة الجدل واحتدام الصراع بين هذين الاتجاهين لا ينتجان حضارة ولا يبنيان رأساً بين أذنين بقدر ما يفصلان الرأس عن الجذع إن صح التعبير فلماذا هذا التجزؤ وهذا الاختلاف؟!
هذه العناصر تحول الأفكار إلى مسوخ وأشباح مرعبة؛ فالمستقبل ينمو بداخل الماضي في سكون وترقب يتفجر في أي لحظة كلما وجد متنفساً.
ومن هنا فلا يصطدم بالماضي الذي هو حاضره في الوقت ذاته! فهل يدفن الماضي في مقبرة التاريخ سواء كان تاريخ الشعوب أو كان تاريخ الشخصية نفسها؟ ولماذا رفض الماضي والتهجم عليه واستنكار طفوه باعتباره سلعة أناخ عليها الزمن (ولا مكان للكراكيب)!؟
يظل هناك خوف مرعب من الماضي فشبحه دائماً يلوح في الأفق! إذا لا مهرب من الماضي وإن كان شبحاً لا وجود له إلا أنه يظل موجوداً.
وقد عالجت الدراما هذا الموضوع وخاصة الدراما الأمريكية والتي كانت فكرة مطاردة الماضي للشخصيات مسيطرة على جميع النصوص الامريكية في دراما القرن العشرين، كما أنه قد سبقهم شكسبير في الدراما الإنجليزية، فهذا شبح الأب يلوح مجدداً في الأفق ويقضي مضجع الابن هاملت، فيخلق نوعاً من الصراع بين الحاضر المتمثل في عالم هانئ حتى لو كان على يد قتله أبيه، و بين ماضٍ يرفض أن يستكين لأنه يرفض التحلل.
وبذلك نستطيع القول إنه لم يكن هناك شبح في والواقع لدى هاملت، بل إنه كان شبحاً داخلياً يطارد هاملت (ماض) على هيئة شبح يقض مضجعه حتى أودى بحياته وحياة شخوص المسرحية. وبذلك كان الماضي تشبحاً للرافضين ظهوره.
وطرح أغلب الكتاب الأمريكيين هذا الفكر بين تمسك الماضي بالوجود وطفوه قسراً على حياة الشخصيات وبين شخصيات معاصرة قائمة بالفعل بما حققته من مكاسب، كما طرحه الكاتب يوجين أونيل في روايته «تحت أشجار الدردار» حيث إن الماضي هو حاضر بصراعه مع الحاضر وتفتقه بين جيناته التي لا فكاك منها في مزرعة مثمرة يتمسك بها الكاسبون.
فإذا كان الحاضر يصر على المرفوض دائماً فهو بطبيعة الحال يجب ألا يعمل على ما يسمى مرفوضاً لأن تلك المرفوضات بطبيعة الحال تتحول إلى بالونات شبحية تقوض استقراره؛ وبذلك يقول أحد النقاد: «ثمة أناس يربطون بين الماضي والحاضر في إطار من النقد الثوري المقارن، ولا تغيب عن أذهانهم مراقبة المنحى الذي تسير وفقه حياتهم في شتى المجالات، وعندما يشعرون بأن هناك تراجعاً في الحاضر قياساً بالماضي، يناضلون لتعديل البوصلة. هؤلاء يجدون على مقربة منهم فكرياً أناساً يرفضون ماضيهم بما يحمله من سياسات وعادات وأنماط اقتصادية ورموز، لكنّهم يعتبرون هذا الماضي جزءاً من تاريخهم، فلا يحقدون عليه ولا يواجهون رموزه».
فهل وعت النعرات (ما بعد حداثية أو الكولونيالية) أهمية الرمز، وأهمية الكاريزما في حياة الشعوب وتاريخهم؟




http://www.alriyadh.com/2012983]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]