المكان الافتراضي تصاحبه تحديات حقيقية، فمن المتفق عليه أن المكان هو مجالٌ تفاعلي، أي أنه يخلق اللقاء الاجتماعي ويصنع "الصدفة الاجتماعية"، وهذا يبدو معقداً في حالة المكان الافتراضي. يضاف إلى ذلك أن المكان يحمل ذاكرة وتاريخاً، فكيف يمكن أن يكون للمكان الافتراضي ذاكرة أو تاريخ..
فاجأتني إحدى طالبات الدكتوراة برغبتها في دراسة المكان الافتراضي كموضوع لبحث الدكتوراة، فهي ترى أن المكان الافتراضي الذي تطور نتيجة للألعاب الإلكترونية في العقدين الأخيرين أصبح مكاناً عقارياً، أي أنه تحول إلى سلعة تباع وتشترى، وترى أنه سيكون هناك أمكنة سياحية افتراضية في القريب العاجل يزورها الناس ويدفعون المال من أجل زيارتها، وهي ترغب في أن تقوم بدراسة هذه الأمكنة وهل تؤثر على "الشعور" أم لا، أي أنها ترى أن المكان الافتراضي مثله مثل المكان الواقعي يمكن أن يولّد مشاعر محددة تجاهه. الموضوع في حد ذاته غير تقليدي، فعادة ما نوجّه مواضيع أبحاث الدكتوراة إلى العمارة أو الأماكن التي يمكن تجربتها في الواقع وغالباً ما نرصد ردود الأفعال حولها، ولم يسبق أن فكرنا في دراسة مواقف الناس من أماكن ضوئية افتراضية ليس لها وجود حقيقي. قناعة الطالبة بأن هذه الأمكنة ستشكل سوقاً عقارية مهمة وستقدم مجالات للحياة تختلف عما اعتدنا عليه، حتى لو أنها افتراضية وغير ملموسة لكنها ترى أنها معاشة ومحسوسة (ونحن هنا نفرق بين المادي الملموس وبين البصري المحسوس الذي يمكن أن يخلق مشاعر خاصة نحوه).
قلت لها إنك تذكرينني بفكرة "المكان الآخر"، وهذه الفكرة تطورت في الأساس من أجل خلق أمكنة عمرانية تختلف عن سياق المدن الحديثة، وأقصد هنا المدن الصغيرة المستقلة داخل المدن الكبيرة التي تهدف إلى صناعة أمكنة غير تقليدية تخلق حالة من "الضدّية" مع الأماكن الأخرى في المدينة، فإلى أي مدى يمكن أن نطلق على المكان الافتراضي مسمى "المكان الآخر"؟ يبدو أن هذا التساؤل، في ظل اللاملموس، الذي يعنيه المكان الافتراضي تصاحبه تحديات حقيقية، فمن المتفق عليه أن المكان هو مجالٌ تفاعلي، أي أنه يخلق اللقاء الاجتماعي ويصنع "الصدفة الاجتماعية"، وهذا يبدو معقداً في حالة المكان الافتراضي. يضاف إلى ذلك أن المكان يحمل ذاكرة وتاريخاً، فكيف يمكن أن يكون للمكان الافتراضي ذاكرة أو تاريخ. بينت لها أن الموضوع يواجه تحديات لكنه موضوع مثير يستحق الدراسة والتفكير. كانت إجابتها على هذه التساؤلات والتحديات هي أننا نقيّم الفكرة من خلال واقع الأمكنة الملموسة التي نعرفها، وربما لا يخطر ببالنا أن هناك عوالم موازية لعالمنا يمكن أن يكون لها تاريخاً خاصاً بها.
واقع الأمر هو أنني خلال السنوات الأخيرة كنت أفكر في "المكان الآخر" و"العمارة الأخرى" لكني كنت أدور في حلقة الملموس والمعاش ولم يخطر ببالي أن هذه الفكرة يمكن أن تتجاوز ما هو واقعي إلى ما هو افتراضي. واستبعادي لهذا التصور هو أنني كنت أرى في المكان الآخر حلاً يتحدى واقع مدننا المشتت ويقدم أفكاراً لعيش المدينة تتجاوز مجرد فكرة السكن. نبع المكان الآخر في مخيلتي من خلال دراسة تجارب تفكيك المدينة العربية التاريخية وإعادة تفسيرها بأسلوب معاصر، خصوصاً في حي السفارات في الرياض وبعض المشروعات الأخرى التي تطورت في وقت كان مخطط "دوكسيادس" يغزو الرياض بشراسة من خلال نظامه الشبكي بينما كان يقدم حي السفارات فكرة "المكان الآخر" على أرض الواقع، تلك كانت حدود الفكرة التي تصورتها ولم أعتقد أنها فكرة يمكن أن تتوسع بصورة مذهلة لتشمل العوالم والأمكنة الموازية لعالمنا. مجرد التفكير في أنه يمكن أن يكون هناك عوالم موازية للعالم الذي نعيشه وأن هذه العوالم افتراضية، نحن صنعناها بأيدينا، تحيلنا إلى تعريف مختلف للمكان.
لقد اشتغلت الفلسفة المعاصرة، خصوصاً الألماني "مارتن هيدغر"، على مفهوم المكان وربما كان هناك اتفاق على وجود مكانين أو فضاء عام يحتوي الأمكنة الأصغر، ومكان خاص يكون بين الأبنية أو بين محددات مادية تعرّفه وتحدد ملامحه، وظل وجود الإنسان في المكان هو ما يعطيه معنى. لكن ماذا عسى أن يكون تعريف المكان الموازي أو المكان الآخر الافتراضي؟ المخاوف التي يثيرها البعض حول هذه الفكرة المتنامية هي أنها ستخلق "المكان الفردي" أي أنه سيكون لكل فرد مكانه الخاص، ويمكن أن يعيش حياته ومغامراته داخل هذا المكان الافتراضي. إن هذا حدث، وهو أمر متوقع بشدة، فإن كل تعاريف المكان والعمارة التي نعرفها لن يكون لها قيمة، فكما نعلم المكان يخلق عمارته والعمارة تخلق أمكنتها، فكيف يمكن أن نتصور المستقبل في ظل هذا التحول نحو المكان والعمارة الافتراضية؟
ترى الزميلة العزيزة أن التساؤلات التي وجهتها لفكرة البحث لا تزال جزءاً من الخيال العلمي، وأن المكان الآخر الافتراضي، لا يزال في بدايته، لكنها تقول إنه صار يؤثر على مخيلة الجيل الناشئ ويصنع صورة ذهنية تتناقض مع الصورة التي يشاهدونها على أرض الواقع. بكل تأكيد إن فكرة البحث سابقة لعصرها، خصوصاً أنها لن تركز على العوالم الافتراضية وأمكنتها وعمارتها فقط بل ستحاول أن تقيس مدى تطور العلاقة بين ما يراه الناس افتراضياً وبين شعورهم نحو تلك الأماكن، وربما يتطور البحث لقياس ما إذا سيؤثر هذا على موقف جيل المستقبل من الأماكن الحقيقية، وهل يمكن أن يرفضوا ما يعيشون فيه فعلاً نتيجة لما يعيشون فيه افتراضاً.
http://www.alriyadh.com/2029309]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]