ليس من السهل الحديث عن العلاقات الإنسانية، فمعها لا تعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي، فالتعقيد سمتها، والغموض قالبها، وتكاملها غاية بعيد منالها، واستمراريتها رفاهية يصعب الوصول إليها! لكن لنتفق بداية أن "العلاقات الإنسانية" بكافة أشكالها الاجتماعية منها والإدارية تقوم في جوهرها على مبدأ "تقبّل الآخر"، وهو عدا عن كونه مبدأ فإنه شرط حتمي ومسبق لإحداث التوازن المنشود الذي يغذي هذه العلاقة ويحافظ على تماسك لبنتها، ويضمن إحداث التفاعل المطلوب وصولًا إلى الهدف النهائي من ورائها وهو "الرضا".
"الرضا" لا يعني بحال من الأحوال أن تمنحني ما أريد، لأن ذلك يتحول ليصبح شكلًا من أشكال "النفعية الأحادية"، لكنه يعني بالضرورة ألا تخفي ما تبطن، وتحرّي الوضوح والشفافية ، وتجنّب المواربة والمراوغة، والتخلص من المزاجية، وإظهار الالتزام والمسؤولية والحرص على الحد الأدنى من استقرار العلاقة وتوازنها حتى وإن انتابها تقلّبات الأحوال، فالاحترام يتوجب أن يبقى هو الأساس المقدّس الذي لا حيد عنه.
يُحدّثنا علماء النفس والاجتماع، بأن العلاقات الإنسانية بأشكالها "الإدارية والاجتماعية" تخضع لنوعين: العلاقات الإجبارية والتي تفرضها روابط العائلة والنسب والدم وتشابكات دوائر المجتمعات الصغيرة، و"الزمالة" الناتجة عن الهياكل التنظيمية في المؤسسات ومتطلبات الاتصال الفاعل في الإدارات، وفي هذا النوع يجد "المرء" نفسه "مضطرًا" لأن يكون جزءاً من هذه المكوّنات ذات المصلحة الجمعية، وهنا تظهر الحاجة للبراعة في كيفية إدارة هذه العلاقة على النحو الذي لا تتعارض فيه مصلحة "الفرد" مع مصلحة "الجماعة"، من خلال إظهار روح التعاون والمشاركة والتسامح والأمانة، والابتعاد عن الانتهازية والكذب والخداع، مع قابلية اللجوء في بعض الأحيان إلى "التغافل" إلى حد "اللا مبالاة" لتجنّب تصادمات واحتكاكات لا تثمر سوى البغضاء والتناحر والاحتقان والإضرار بما هو أبعد من المصالح الشخصية.
أما النوع الآخر فيتعلق بالعلاقات الاختيارية، والتي يلجأ إليها المرء طواعية وبقدر واسع من الحرية لخلق روابط فكرية وعاطفية وجسدية مع الآخر أساسها حاجته التلقائية والفطرية للسكينة والمحبّة والمنفعة الإيجابية وتقدير الذات وإشباع مشاعر وأحاسيس الإعجاب، والتشارك في الاهتمامات.
وعن هذا النوع من العلاقات تتبلور نماذج الصداقة والزواج والانخراط في التجمّعات وكذلك الشراكات، وعادة ما تتسم هذه الأشكال من العلاقات الاختيارية بأنها أطول عمرًا وأرسخ ثباتًا إذا ما انطلقت من تفكير سوي، وخلت من اندفاعية المواقف والقرار، وأُحيطت بالقدر الوافي من العقلانية، وامتلكت القدرة على مقاومة رياح الطريق، لكن رغم الاختلاف بين هذين النوعين من العلاقات الإنسانية، فإن منطلقاتها تبدو واحدة، وشروط متانتها متماثلة، ذلك أن الوصول إلى علاقات ناجحة في كلتا الحالتين يكمن في مدى تغليب الإيجابيات على السلبيات، وعدم الوقوع في فخ رفع سقف التوقعات.
وهذا الأمر لا يأتّى إلا إذا كانت البدايات سليمة ونقية من شوائب الكذب والخداع والنفاق، وعدم الانحياز للمصالح الأحادية التي تخلخل قواعد العلاقة وتجعلها قابلة للانهيار عند أول اختبار.
إن "الجرأة" في التعبير عن حقيقة مشاعرنا تجاه الآخر، حتى وإن بدت الحقيقة مؤلمة، لكنها أقصر الطرق للحد من خسائر النهايات الفادحة الناجمة عن التسويف والمماطلة والمجاملة الهدّامة والتي عادة ما نلجأ إليها توّهمًا بأنها الأسلم والأقل ضررًا، دون الإدراك بأن كل ما نفعله في واقع الأمر ليس سوى بناء بيوت من رمال، يستحيل معها محاولات الترميم!
خلاصة القول، إن العلاقات الإنسانية علاقات تبادلية المنفعة والمصلحة والمشاعر والتقدير، وإن محاولات تنحيتها عن هذا الخط من خلال الاستئثار بما يرغب ويلائم طرف دون مراعاة الطرف الآخر يفقدها خاصية استدامتها، ويحولها إلى علاقة القطب الواحد ليقذف بها إلى الهاوية، فالهدف النبيل للعلاقات الإنسانية أن تكون غير مشروطة أو محكومة لغاية عابرة، وإلا فرغت من إنسانيتها وخضعت لغريزة الوحوش!




http://www.alriyadh.com/2039280]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]