يشكّل المكان بدء التأسيس الحقيقيّ لنمط وجود الإنسان، ولعلّه الجانب الأوضح في العمران الإنسانيّ، فللمكان سطوته الكبيرة على قاطنيه، ويذهب علماء إلى أنّ الإنسان نتاج بيئته الجغرافيّة، ومنهم الألماني «فردريش راتسل» القائل بـ«أنّ الإنسان ليس شيئًا أكثر من أثر الطبيعة وقوانينها الصارمة، وأن نشاطاته رَهنُ شروط تُوجب حدوثها بصورة اضطراريّة ومطّردة».
فرضت خصوصيّة البيئة العربيّة الصحراويّة في مجملها، على العربيّ، أسلوب التنقل والترحال، بما خفّ وزنه ودعت إليه الضرورة، فكان البيت خيمةً، وكان الوداع حاضرًا، والفراق دائمًا، والتذكّر رفيق الدرب الطويل، ولما كان الشّعر مستودع حياة العرب؛ برزت ظاهرة الأطلال والوقوف بها بوصفها ظاهرةً فنيّةً لازمة تكاد لا تفارق القصيدة العربيّة في عصورها الأولى.
يشي حضور الأطلال، بوفاء الشاعر للمكان، والاحتفاء به، ذاك المكان الذي سكنه وشهد ولادة حالات إنسانيّة عاشها مع أحبّة كانوا ملء العين والبصر فيه، وأمسوا أثرًا بعد عين، فخلّدها شعرًا يروى على مرّ الحقب وتقلّب الأزمان، فالوقوف على الأطلال علامة ثقافيّة في الشّعر العربيّ، والوجدان العربيّ، يمكن أن تتعدّد قراءته وتتّسع كأفق الصحراء المفتوح غير المقيّد بغيوم ملبّدة ولا بهموم مثبّطة.
سعى العربيّ في رحيله السرمديّ إلى التشبث بلحظة استقرار عابرة، فكان يريد أن يحيا، ولو فنيًّا، زمنَ استقرار يستعيد فيه المكان والزمان والأهل والأحبّة والجيران؛ فبدا الوقوف على الأطلال مأساته الوجدانيّة والروحيّة أمام الغياب الدائم، الأمر الذي جعل للمكان، ودلالاته معانٍ مختلفة بين وصلٍ وقطيعةٍ أو بحثٍ عن معنى آخر للمكان، ليصرّح -على سبيل المثال- ابن الملوّح بقيمة المكان الحقيقيّة عنده ومصدرها:
وما حُبُّ الديارِ شَغَفنَ قلبي
ولكن حُبُّ من سَكَنَ الديارا
ليحمل المكان معنى جديدًا لا يكتفي بنفسه، بل بمن سكنه، فهم الأساس في وجوده وعمارته، ولهم وحدهم الشوق الدائم، وهو ما يشكّل انزياحًا دلاليًّا لمعنى المكان وأطلاله، ويميط اللثام عن معنى أوسع للمكان، وأعمق في الوجدان، فلا تبقى منه إلا أطلال أمست ظاهرة جماليّة في مقدّمة قصيدته، شاهدة على قيمة المكان في بنية نفس الشاعر العربيّ ودالة على وفائه له، ليُفسح المجال لتعدّد معاني المكان، واتّساعها، فالمتنبي بعد حين من الدهر يوضح حقيقة موضع منازل الأحبّة عنده في معنى جديد للمكان:
لكِ يا منازلُ في القلوبِ منازلُ
أقفَرتِ أنتِ وهنَّ مِنكِ أواهِلُ
يتبدّى المكان، هنا، بوصفه فضاء رمزيًّا، وفكرةً ثمينةً لطيفةً خفيفة، فأمكنة الأحبة لم تعد تقطن القفار والسهوب، بل أضحت تقيم في الصدور ودفء القلوب، وتسافر مع الشاعر في كلّ الدروب، أينما حلّ وارتحل، هكذا وقف الشاعر العربيّ أمام المكان والأطلال في جماليّة ظاهرة، ووفاء قيميّ، وتجاوز مكانيّ، جعلت للمكان فلسفة عميقة، ودلالات متعدّدة تتيح له التحرّر من محدوديّة المكان الضيق ليعانق أفق الزمان الواسع.
إنّ الزمن عند بعض الفلاسفة هو شرط المعنى والفكر، فالحقيقة زمانيّة بخصوصيّتها وتعدّدها، والإنسان أغلى ما في الوجود، ليواصل معنى المكان التجدّد جماليًّا ودلاليًّا وصولًا إلى الزمن المعاصر مع أحد شعرائه وهو محمود درويش:
الأحبّة: هاجروا/أخذوا المكان وهاجروا/أخذوا الزمان وهاجروا/أخذوا روائحهم عن الفخار/ والكلأ الشحيح وهاجروا/أخذوا الكلام وهاجر القلب القتيل/ معهم.
فرحلة المكان المعنويّة، وربّما معه الزمان أيضًا، وما يتصل بهما متواصلة مع الشعراء في رحلتهم الأبديّة في فضاء الشعر وزمانه بحثًا عن الإنسان وحواراته الوجوديّة وقيمه وحالاته الإنسانيّة العادية تارة والمربكة تارة أخرى.
http://www.alriyadh.com/2048833]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]