منذ أشهر، في أمسية صيفية باردة في مدينة شيكاغو، وجدت نفسي في حدود مريحة وخافتة من مكتبة صغيرة تحت الأرض، مستمعاً إلى نقاش حماسي مع مجموعة من الكتاب الشباب، وسط الجدران المبطنة بالطبعات الأولى ورائحة الورق القديم، شارك أحد الكتاب كشفه الصغير الذي من شأنه أن يتحدى فهمنا للإبداع، كان الكاتب يشارك تجربته التي حركها الفضول المحض أول الأمر، في استخدام أداة جديدة توظف تطبيق الدردشة (جي بي تي) لإنشاء محتوى مكتوب، تركت ما في يدي حينها وأصغيت مستمعاً.
أعطى الكاتب التطبيق الجديد رواية الغريب لألبير كامو، ولدهشته التي بلغت حدود الفزع، نوع التطبيق بمهارة على الرواية، مولداً خطوطاً سردية جديدة بعيدة عن الرواية الأصلية، فلم يتوقع أن تعكس القصة تأملات كامو الفلسفية وأسلوبه المقتضب، بل تأتي بشخصيات جديدة تناقش التحديات الفلسفية المعاصرة للعصر الحديث، كانت قدرة التطبيق على هضم جوهر كتابة كامو وإنتاج المحتوى الذي كان له صدى مع القضايا المعاصرة بمثابة كشف للمجموعة.
بمجرد ما أنهى الكاتب حديثه، انطلق الجميع في تعليقات ساخرة مشوبة بالقلق، شاركت بقولي: إن الأمر لن يبقى هكذا دون تدخل يسمح للمتلقين التفريق بين المحتوى المنتج آلياً والمحتوى المصنع (طبيعياً). مرت أشهر حتى أعلنت غوغل الأسبوع الماضي عن نيتها للتحالف مع شركات أخرى لتطوير وسيلة لإصدار وثيقة اعتماد للمحتوى الرقمي، أشبه ما تكون بقائمة المحتويات في المنتجات الغذائية، كما أعلنت شركة الذكاء الاصطناعي المفتوح نيتها إضافة علامات على الصور المعالجة بتطبيقاتها، فكرة الاعتماد خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن الأمر أعقد من ذلك.
إذا تطور وعي المستهلكين ليستفيد من هذه الحلول، فإن ما يقلق الكتاب أن هذا الاهتمام لن يستمر طويلاً. فسوف تذهب قوى السوق بالمتمسكين بالمحتوى الأصلي المكتوب (طبيعياً) كما ذهبت بكل من مد سجادة كبيرة مصنوعة آلياً في فناء منزله الصغير، بعد أن كان يرضى بقطعة صغيرة من السجاد الرومي المصنوع باليد.
المشكلة التي تواجه الكتاب حالياً، أن المحتوى الذي ينتجونه يذهب لتستهلكه آليات الذكاء الاصطناعي الضخمة وهي تطل من نافذة ناعمة من هواتفنا المحمولة، ما ينتجه الكتاب يتدرب عليه الذكاء الاصطناعي ليتعلم منه حتى يصبح أقوى وأقدر على إنتاج مثله بسرعة وكفاءة.
إنها الحلقة المفرغة التي تدور بسرعة مخيفة يصعب اللحاق بها لمن أراد، وما الحلول التي تعمل الآن إلا جهود وقتية لن تجدي نفعاً، لذلك على الكتاب المسلحين بقدراتهم الابتكارية التي لم تفك شفرتها بعد أن يجدوا طرقاً جديدة للكتابة، فرض الأمر عليهم اليوم وليس لهم سوى أن يعيدوا تعريف أنفسهم ويجدوا في التقنية ما يوظف لصالحهم، ومثل عدّائي المسافات الطويلة، عليهم أن يحافظوا على تقدمهم طيلة مسيرتهم مهما طال السباق ولو بخطوة واحدة على الأقل.
http://www.alriyadh.com/2058797]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]