في السنة الثالثة من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن¡ سجلت مادة الإدارة العامة عند الدكتور إبراهيم الزامل رحمه الله. وفي أول محاضرة قدم لنا مفهوماً صادماً عن البيروقراطية يخالف ما كنا نعرفه عنها من أدبيات المجتمع. ستقرأ دائماً في أكثر من مقالة أو خبر وصفاً سلبياً للبيروقراطية حتى أصبحت مرادفة للرجعية وسوء الإدارة وضعف التدبير. بل أصبح مفهوم البيروقراطية شماعة تعلق عليها جميع مشكلات الأجهزة العامة من ضعف الإنتاجية وهدر الموارد.
كان كلام الدكتور إبراهيم الزامل عن البيروقراطية مثالاً قوياً للدلالة على مسألتين مهمتين: الأولى¡ أن المفهوم النظري ربما خالف الواقع التطبيقي حتى أصبحت البيروقراطية الشيء وعكسه¡ فهي مثال للانضباط واللامسؤولية في آن واحد¡ وهي معنى للقوة والضعف في الوقت نفسه. فالبيروقراطية بالمعنى النظري منهج إداري يعتمد قواعد وإجراءات صارمة يفعِّله هيكل تنفيذي ثابت. أما في الواقع التطبيقي فهو منهج إداري يعتمد قواعد وإجراءات غير مجدية ينفذه هيكل إداري جامد.
المسألة الأخرى¡ أن اعتماد منهج دون آخر يفرضه عمل المؤسسة وثقافتها. فقد تكون البيروقراطية المنهج المناسب للمؤسسات العسكرية أو مؤسسات الرقابة العامة وغير صالحة لإدارة المنشآت الناشئة والمؤسسات الخيرية. فلا يوجد منهج صالح لكل الأحوال¡ بل على كل مؤسسة أن تختار ما يناسبها حسب ما تقتضيه مصلحتها.
وترد أمثلة عديدة عن مؤسسات اتبعت المنهج البيروقراطي بصرامة وحققت نجاحات كبيرة. من الأمثلة الشائعة إحدى شركات البريد التي أعطت موظفيها تعليمات صارمة ودقيقة حول إيصال الطرد البريدي بدءاً من الوصول إلى عنوان المنزل حتى مغادرته. فمن هذه التعليمات الصارمة أن يلتزم ساعي البريد قرع الباب ثلاث مرات فقط¡ ولا يحق له أن يزيد على ذلك أبداً. استطاعت الشركة باتباعها المنهج البيروقراطي توحيد الإجراءات والحد من الاجتهادات الخاطئة التي قد تسيء إلى سمعتها. هذا المنهج الصارم بُني على تخفيف عبء اتخاذ القرار على موظف البريد. فليس أمام موظف البريد سوى اتباع التعليمات بحذافيرها دون اعتبار الواقع الذي يواجهه مهما كان.
هذا المنهج الصارم نفسه هو موضع انتقاد عند تطبيقه في مؤسسة أخرى يتطلب عملها الاستجابة للمتغيرات المتسارعة. بل إن البيروقراطية النظرية تُنتقد كونها تسلب من الفرد إرادته¡ جاعلته ترساً في آلة كبيرة للإنتاج تفتقد إلى الإنسانية¡ مجردة من العاطفة. هكذا تصبح البيروقراطية وسيلة لتغليب الإرادة المؤسسية على إرادة الفرد¡ وهي بذلك تصبح من حيث المبدأ ضد الإبداع والابتكار. واعتماداً على ما سبق¡ فإن البيروقراطية النظرية تتباين سلباً وإيجاباً حسب مجال التطبيق وهدف المؤسسة.
http://www.alriyadh.com/1709183]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]