إخفاء بعض الأوقات الفضلى مع ذكر ميزتها التي لا يُفرِّطُ فيها المجتهد؛ لكي يكون في ذلك تحريض على طلبها، ولا بد لمن طلب الوقت المخفي من الاحتياط والتحري الكفيلين بتكثير العمل، فمن ذلك إخفاء ليلة القدر بعد ذكر فضيلتها العظيمة المتمثلة في كونها خيراً من ألف شهر..
اقتضت حكمة الله تعالى أن يجتهد الموفقون في طاعته، وأن لا يقعد بهم عن ذلك قنوطٌ مُثبطٌ، ولا أمنٌ مُتطرفٌ، وهذا من مظاهر كون هذه الدار دار العمل، فلم يكن ممكناً أن يعيش فيها المكلف الخالي من عوارض التكليف وهو مُعفى من التعبد ومزاولة العمل اكتساباً للخيرات وكفّاً عن السيئات، وقد نص القرآن الكريم على الإنكار على من حسب إمكان ذلك، قال تعالى: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)، بل إن حطَّ أعباء التكليف عن المطيق لها مُخالفٌ للحكمة الإلهية في خلق الإنس والجن ألا وهي عبادته، ولأهمية عبادة الله تعالى لا يوجد مقام من مقامات العباد يتأهل الواصل إليه للتخلص من مطلوبية العبادة منه، نعم هناك الكثير من التيسير والترخيص المرافقين للأمر والنهي، وهذا من رحمة الله بعباده، ويتجلى الإغراء بالعمل في وجوه منها:
أولاً: ما ألهمه الله أنبياءه وأولياءه من الاجتهاد في العمل مع أن الأنبياء عليهم السلام وبعض الصديقين موعودون بالجنة، ولم يحملهم ذلك على الخلود إلى الأرض وترك العمل، بل هم أحسن الناس عبادة وأتقى الناس لله، فما وراء اجتهادهم اجتهاد محمود، ومن رام الزيادة على ما هم عليه فقد تخطى حاجز العمل المحمود إلى طرف التنطع المذموم، فبالنظر إلى سير هؤلاء نرى أن الواحد منهم يُبشر بالمغفرة فلا يقول لنفسه: ها أنا قد حصَّلتُ المأمول، ونجوت من المخوف، فقد حان لي أن أمدَّ رجل الاستراحة، بل يجتهد في مرضاة الله تعالى إلى أن يلقاه، فعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله تعالى عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا؟ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» متفق عليه، فهذا شأن المؤمن لا تزال جذوة التقوى متقدةً في نفسه؛ لأن خشية الله تعالى بها وصل إلى ما وصل إليه، فلا سبيل إلى التخلص منها، كيف لا وهي من صميم العبادة؟
ثانياً: إخفاء بعض الأوقات الفضلى مع ذكر ميزتها التي لا يُفرِّطُ فيها المجتهد؛ لكي يكون في ذلك تحريض على طلبها، ولا بد لمن طلب الوقت المخفي من الاحتياط والتحري الكفيلين بتكثير العمل، فمن ذلك إخفاء ليلة القدر بعد ذكر فضيلتها العظيمة المتمثلة في كونها خيراً من ألف شهر، ففي هذا الإخفاء إلجاء إلى طلبها، وطلبها بالاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان لا سيما الأوتار، وفي هذا الصدد لا ينبغي أن يقتصر على ليلةٍ بعينها؛ لكونها أرجى، فهذا يُنافي تكثير العمل الذي من أجله أُخفيت، ففي حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِنِّي نَسِيتُهَا - أَوْ أُنْسِيتُهَا -، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ كُلِّ وِتْرٍ) متفق عليه، ومن هذا القبيل عدم تعيين ساعة الإجابة يوم الجمعة بالدقيقة؛ ليجتهد المسلم في الدعاء ما بين جلوس الإمام على المنبر إلى أن تُقضى الصلاة، وفي الساعة الأخيرة من عصر الجمعة، ولا شكّ أن ليلة القدر لو نُصَّ على تعيينها نصاً لا يحتمل التأويل لاقتصر على الاجتهاد فيها كثيرٌ ممن يجتهد في ليالٍ متعددةٍ من أجلها فيقلّ عمله، وساعة الجمعة لو حُدِّدت كذلك لخصَّها بعضهم بدعائه.
ثالثاً: فتح أبواب التوبة إلى الله تعالى، فالشرود عن الطريق المستقيم ليس مانعاً من استئناف العمل الصالح متى رجع العبد إلى ربه مُنيباً، وهذا من إعانة الله تعالى لعباده على ما كلَّفهم من عبادته، وقد وفق الله تعالى الكثير من خيار عباده بالتوبة بعد ما ظن الناس أن لا أمل في ارعوائهم، ثم ألهمهم بذل الغالي والنفيس في طيِّ المسافات في العبادات حتى صاروا من السابقين المبرزين، وقد حصل ذلك لبعض الصحابة رضوان الله عليهم، وصاروا أقمار هداية وحُمَّال دعوة، وما زال يقع للمتعبدين والزهاد والعلماء وأهل الخير، ولا شك أن التائب لو علم أن ذنوبه تُلاحقه بعد التوبة، وتحبط أعماله المستأنفة لتقاعس عن التوبة، وتمادى فيما هو فيه، ولهذا يسأل بعض الصحابة عن هذه النقطة عند إرادة الإسلام، فعن عَمْرو بْن الْعَاصِ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا"، أخرجه الإمام أحمد وغيره.




http://www.alriyadh.com/1884181]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]