الفنّ ليس شيئًا مضافًا إلى الحياة، ولا هو فائضٌ شعوريّ يمكن الاستغناء عنه، إنّه أحد محدّدات معنى الوجود الإنسانيّ؛ إذ يتسرب إلى تفاصيل الحياة اليوميّة، ويحيط بها ويظهر ما كان محتجبًا عن الأنظار مفصحًا عن كينونته، فالفنّ لا يكتفي بالوظيفة الكشفيّة، إنّه يسبر أغوار الأشياء والمشاعر وآلية عملها في النفس البشريّة، فالنشاط الفنيّ في عمقه تأسيس قيميّ وتحديد جماليّ يشترك فيه المبدع والمتلقي وما بينهما من محيط ثقافيّ وفضاء طبيعيّ.
يأتي الشّعر في مقدمة الفنون، فهو أقدمها وألصقها بالتجربة الإنسانيّة، وأكثرها انتشارًا بسبب طبيعته التي لا تتطلب إلا لسانًا يلهج به، وأذنًا تسمعه لكي يسري بين الناس، بخلاف أغلب أنواع الفنون التي تحتاج إلى أدوات ماديّة في إنتاجها، كالمسرح والموسيقى والفنون التشكيليّة، وإضافة إلى اكتفائه بذاته، فهو ينساب في أكثر الفنون الأخرى، إذ يرى الفيلسوف الألماني «هيدجر» أن العلاقة بين الفنّ والشّعر ليست علاقة بين طرفين، وإنّما هي علاقة هوية، مؤكّدًا أنّ كلَّ فنّ في جوهره شعرٌ، فهذا من حيث الطبيعة والتكوين، أمّا من حيث الحضور التاريخيّ المستمرّ إلى وقتنا فيكاد أن يكون حضوره في الثقافة العربيّة الأكثر ظهورًا وخلودًا بين الأمم.
إنّ حضور الشّعر في الثقافة العربيّة هو أشبه ما يكون بحضور انتماء ومباهاة، فالشعر أنيس الفرح والبسمة، ورفيق الترح والدمعة، وصاحب العربيّ في جُلّ شأنه أيًّا كان مستواه الثقافيّ والاجتماعيّ، ولقد رُوي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنّه لم يكد يعرض له أمرٌ إلّا أنشد فيه شعرًا، فللّشعر وظيفة تأسيسيّة في المنظومة القيميّة والجماليّة في الثقافة العربيّة منذ القدم، والشواهد على ذلك كثيرة.
ففي بلورة الجماليات العربيّة تبرز وظيفة الشّعر، بوصفه مؤسّسًا، ومشرّعًا جماليًّا، وذوقيًا في الثقافة العربيّة، بل إنّ مدى تأثيره يصل إلى قدرته على «تقبيح» الجميل ورفضه، و»تجميل» القبيح والقبول به، ومن ذلك ما كان مع الشاعر الحطيئة وبني (أنف الناقة) وهم قبيلة عربيّة من بني قُرَيع بن عوف، فيهم شرفٌ وعدد، ويُذكر أن سبب تسميتهم بـأنف الناقة أنّ جدهم قد أكل رأس ناقة وسُمي به، وكذلك أبناؤه من بعده، وكانوا يتحرّجون من هذا الاسم لبشاعته، فكان الرجل منهم إذا قِيل له: ممّن الرجل قال: من بني قُرَيع، فما هو إلّا أن قال فيهم الحُطَيئة:
قومٌ هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرُهُم
ومن يُساوي بأنفِ الناقةِ الذَّنبا
حتّى صار الرجل منهم إذا قيل له: ممّن أنت؟ قال: من بني أنْف الناقة، ليغدو ما كان يُعدّ حرجًا وقُبحًا محلَّ فخرٍ وجمالٍ ومباهاة، كلّ ذلك تحقّق بفضل قوة تأثير الشّعر، وما يحمله من قدرة على إعادة تموضع الأشياء والأسماء والعادات والجماليات، وممّا يدلّ على قَدْر الشّعر في الثقافة العربيّة، وموقعه في تشكيل الجماليات –بما تتضمّنه من جميل وقبيح- ما أورده الجاحظ في البيان والتبين من أنّ الشاعر ربّما قال في هجائه قولًا يعيب به المهجوَّ فيمتنع مِن فِعله المهجوُّ وإن كان لا يلحق فاعلَه ذمٌّ. وكذلك إذا مدحه بشيءٍ أولِعَ بفعله وإن كان لا يصير إليه بفعله مدحٌ. فللشعر العربيّ كيمياء خاصّة في تشكيل جماليات الثقافة العربيّة، وتأسيس الذوق العربيّ ورسم ملامح ما ينبغي له أن يكون وما يُستقبح منه أن يكون، والأعمق من ذلك قدرته التحويليّة في ذلك كلّه، بجعل ما كان مستهجنًا مقبولًا وما كان مقبولًا مستقبحًا.




http://www.alriyadh.com/2053664]إضغط هنا لقراءة المزيد...[/url]